النكبة خيانة... خيانة تاريخ

النكبة خيانة... خيانة تاريخ
منذ النطوفيين وما قبلهم، أي منذ اثني عشر ألف عام سكن أجدادنا في أرض فلسطين، وقاموا بأول ثورة زراعية حداثية في العالم، تلك الثورة التي تميّزت بالموضوعية والمعقولية... كانت أولى خطوات العالم نحو التدجين والاستقرار، وفي الوقت الذي بنى فيه أجدادنا عاصمتهم النطوفية تلك في أريحا (يرح=مدينة القمر) وأحاطوها بسور أريحا العظيم ذي الارتفاع الذي يتجاوز الأمتار العشرة، وبعرض ثمانية أمتار كانوا يدركون أن هذا السور، ربما سيمنع عنهم خيانة التاريخ. ومع أريحا في الألف الثامن قبل الميلاد بنوا قرى أخرى... شبقة، وأبو سيف، وغالا، والزويتينة... حول القدس الحالية، وإلى الشمال بنُوا وحصّنوا عين الملاّحة، والتي كانت في ذلك الوقت عاصمة الشمال الفلسطيني، وعاصمة الامتداد البشري المنتج والمستقر على شواطئ طبريا. والتي شكلّت بامتدادها الطبيعي وموقفها نقطة الوصل الحيوية للمثلث الشامي التاريخي فيما أصبح يسمى لاحقاً وتحت ضغط التسمية السايكسبيكوية (اللبناني-الفلسطيني-السوري). فأجدادنا منذ العصر الحجري الوسيط وهم يحفظون تراب هذه الأرض ويعرفون كيف أنبتوا حنطتها. وكم سنبلة أنبتت، وكم حبة في كل سنبلة قمح، وكم عنقود في كل دالية عنب....... البارحة كنّا في جلسة مع النكبة والشاعر الشعبي العملاق "أبي عرب" إبراهيم الصالح، وعندما كان يسرد لنا وقائع النكبة وخيانات التاريخ والإدارات والانكليز... كنت أحسُّ أن جدّي النطوفي يتحدث إليَّ منذ عشرة آلاف عام... وقائع خارقة للزمن، وحكايات لا تصمت وهجرات عبر الدموع والموت ستبقى حتى العودة. عندما كان يحدثنا "أبو عرب" عن الهجوم الصهيوني الأول على قرية الشجرة وإصابة والده واستشهاده لاحقاً برصاصة صهيونية في القلب... كانت ذاكرتي تنقلني إلى عين الملاّحة القريبة من الشجرة... وكأنهم يحاولون أن يقتلوا جدّي النطوفي الذي علّم العالم كيف يزرع الحنطة والكروم وكيف يطحن القمح ليصنع الخبز... فبعد تشريدهم باتجاه "كفر كنّة" كان أهلنا يعودون ليلاً وبين الطلقات ليحصدوا ما تيسّر من حنطتهم تحت جنح الظلام... في المعارك الأولى استشهد الشاعر الكبير عبد الرحيم محمود... وفي التالية استشهد كثيرون من قرية الشجرة، التي هي أيضاً قرية ناجي العلي... والمرحوم المناضل الفتحاوي الدكتور فضل مطر، أحد مؤسسي لجان حق العودة... من الشجرة إلى كفر كنّة إلى الناصرة إلى بنت جبيل إلى عين الحلوة... إلى مخيم خالد بن الوليد "مخيم العائدين" في حمص في الجمهورية العربية السورية.... مطاردات وهجرات وجوع وموت... لم تلاحق "أبا عرب" نموذجاً فقط بل لا حقت كل ذلك التراث المتجذّر في أرض فلسطين، وكأن الصهاينة يحاولون اقتلاع "عين الملاحة" من جذورها. "أبو عرب" الذي أصيب بجراح في صدره في معركة الشجرة الأخيرة لم يترك لهم "عين الملاحة"... بل زحف بعده ابنه معن الصالح/ ابن "أبي عرب" ليستشهد على بعد أميال قليلة من عين الملاحة في عام 1982. النكبة... خيانة التاريخ... خيانةُ "حضارة" تصعد على المحركات ودماء البشر، وسحق أحلامهم... عندما تصغي إلى "أبي عرب" صاحب الذاكرة المتّقدة والمتوهجة، تدرك أن شعبنا الذي صنع التاريخ على امتداد اثني عشر ألف عام، لن يترك لهذا الأخير، الاستمرار في ممارسة خيانته.... من النهر إلى البحر... ومن الناقورة إلى رفح أسلافنا بنوها، وقُبروا فيها... وشكل دمهم ترابها وأشجارها وزيتونها وأحلامها، ولا بدّ من عودة النطوفيّ... الجدّ الحقيقي لكل العرب إلى أرضه.