فى ليلة مظلمة من ليالى الشتاء ، فكر بعض اللصوص الأذكياء فى مغامرة كبرى ليس لها ضريب فى التاريخ ، فكروا فى سرقة نجفة لاتقدر بثمن موضوعة فى مكان آمن .
وهى تحفة كبيرة تتلألأ بالثريات والقناديل ، ومدلاة بعقود من الكريستال، ومزدانة بحبات من الزمرد والياقوت والعقيق والمرجان .
وتتدلى شامخة فى زهو كل نادر فى الوجود ، تتدلى من قبة مسجد كبير من مساجد السلاطين .
وعندما تضاء هذه التحفة بعد الغروب ويغمر المسجد الضياء ، ويهب نسيم الليل ، تتراقص ثرياتها ، وتتماوج قناديلها ، ويمتزج النور الأزرق ، بالأصفر والأحمر ، ولون العناب .
ويسجد المصلون فى النور ، وهم يسبحون لله العلى القدير الذى خلق الإنسان .. فصنع بيده مثل هذا الجمال الفتان .
وفى ساحة المسجد سمع صوت الشيخ رفعت يتردد فى جنباته من المذياع ..
ورتل الشيخ عبد الباسط .. وشعيشع .. والمنشاوى القرآن فى صلاة الجمعة .
كما أنشد الشيخ طه الفشنى التواشيح .
وتحت هذه النجفة جلس الطلبة يراجعون دروسهم .. وقرأ المصلون القرآن واستراح أهل الحى يستنشقون الهواء النقى المصفى فى ليالى الصيف الجميلة .
وكان المسجد على رحابة صحنه ، واتساع أرجائه قليل الرواد والمصلين فى الليل والنهار .. لأنه يرتفع عن الطريق بدرجات عالية .. ولأنه يقع فى منطقة تكثر فيها المساجد ، كما أنه يغلق أبوابه بعد صلاة العشاء بنصف ساعة .
وبعدها يخيم السكون التام ، والهدوء المطلق على الحى بأجمعه .
وفى الشتاء القارس يتحرك تيار الهواء بعنف تحت جدرانه العالية ، ويصبح كحد السيف يقطع الرقاب .
ويقوم على خدمة المسجد ، وهو فى الوقت عينه حارسه فى الليل .. عجوز مشلول كان يرقد بعد صلاة العشاء فى قاعة منعزلة تقع فى الزاوية الغربية من المسجد .. وبابها على الباب الكبير ليسمع المشلول وهو راقد ويرى ..
وقد ظل هذا العجوز المشلول يخدم فى هذا المسجد قرابة خمسين سنة .. خدمه فى صباه وشبابه .. ويافع رجولته .. فلما انشل فى شيخوخته أشفق عليه انسان طيب ممن بيدهم الأمر .. وأشر على أوراقه بأن يبقى خادما للمسجد ما دام حيا .
وعاش العجوز يتنفس من هواء المسجد .. فأصبح قطعة منه .
وكان يعرف كل شبر فى المسجد .. وكل حجر ، وكل عامود ، وكل سجادة وتحفة ..
وقبل شلله كان يتحرك فى نشاط وقوة .. ويدور على زوايا المسجد ومحرابه .. ثم يغلق الباب .
وبعد أن انشل عينوا له صبيا يأتيه بالطعام والشراب ، ويتحامل عليه إلى دورة المياه .
ويبقى الصبى معه إلى ما بعد صلاة العشاء ، ثم يغلق الباب ويترك العجوز وحده إلى الصباح .
دخل اللصوص الثلاثة المسجد فى أوقات الصلاة .. وشاهدوا بأعينهم كل ما هو فى حاجة إلى معرفته .. عرفوا فى أى شىء تتعلق النجفة .. ومكان السلم الطويل .. ومتى يغلق الباب الضخم ومتى يفتح .. وفى أى ساعة من ساعات الليل يبقى العجوز وحده .. ومتى يدخل حجرته لينام وهو آمن .. عرفوا كل شىء .. ورسموا الخطة الجهنمية بإحكام لاثغرة فيه .
وكان من تدبيرهم الشيطانى أن يرفعوا النجفة المخطوفة ! بخطاف يوضع فى السقف ، ويضعوا فى مكانها فى نفس الليلة نجفة أخرى عادية يشترونها بجنيهات لاتزيد على المائة ..
واشتروها فعلا وأعدوها للمغامرة .
وكان لابد من وجود الكهربائى الفنى الذى يخلع هذه النجفة النادرة دون خدش ، ودون أن تسقط مرة واحدة .. ثم يضع فى مكانها النجفة الزائفة .
ووجدوا المشقة فى الحصول على هذا الشخص ، فإن مجرد ذكر المكان ولو على سبيل التعمية والتضليل .. كان يرعش العامل ويرعبه .
وأخيرا وبعد يأسهم ممن أغروه بالمال .. عثروا على من هددوه بالقتل إن لم يرضخ لمشيئتهم ..
وأخذوه فعاين كل شىء فى الداخل على الطبيعة ..
وبلغ منهم السرور مبلغه ، لما قال لهم أن العملية ستتم فى يسر ، وفى وقت أقل مما قدروه بحسابهم .
وفى الليلة الظلماء .. تحرك أربعة فى سيارة ومعهم نجفة كبيرة وعدد وحبال وبكر ..
وتحت جدار المسجد صعد اثنان منهم وصليا العشاء مع المصلين .
وبقى اثنان مع النجفة الزائفة فى العربة .. حتى تأتيهما الإشارة .
وبعد أن خرج المصلون من المسجد .. وأغلق الباب وخيم الظلام .. تحرك من فى العربة .. وصعدا السلالم .. وفتح لهما رفاقهما الباب ثم أغلقوه ..
وعلى ضوء مصباح واحد .. رفع السلم وصعد العامل الفنى .. وأخذ يدور ببصره فى سقف المسجد ، وقد رأى كل الثريات تدور مع عينيه .. والسلم الواقف عليه يروح ويجىء ويتطوح ..
وأحس بالعرق الغزير وبرعشة .. وبمثل الكلابة تدور على عنقه فسقط ما فى يده .. وصرخ .. وأخذ يهبط السلم كما صعد وهو يرتعش .. فمه يرغى ويزبد بمثل الحمم .
ولكمه أحد الأذكياء ليجعله يفيق من غشيته ، ودفعه أمامه ليصعد السلم مرة أخرى ..
فصعد العامل مستسلما صاغرا ، واللص وراءه وفى يده العدد ..
وأحس خادم المسجد المشلول بهم وهو فى قاعته الصغيرة .. وسمع الصرخة .. ففتح عينيه وحدق .. وشاهد السلم ومن يصعد فوقه .. فأصابه الفزع من هول المنظر .. إن ما يجرى أمامه لم يخطر بباله ولابال أحد من البشر . وكان الاثنان اللذان فوق السلم قد صعدا إلى قمته .. وهناك دارت بهما الأرض ، وشعرا بالسلم يتطوح كالمرجيحة ، وهما جزء من أخشابه .. فلم يقويا على الحركة وتخشبا فيه .
وأخذ المشلول ينظر إلى من على السلم ، ومن تحته فى فزع ، وهو عاجز عن الحركة ، وغاب عنه أنه لايستطيع أن يفعل شيئا .. وكلما رأى حركاتهم ، وأيديهم ترتفع إلى أعلى ، خيل إليه أن أحدهم قد اقترب من النجفة وتجاسر على لمسها وفكها ، فاحتدم غيظه وانفجر غضبه .. وألفى نفسه من هول المنظر الذى أمامه يقف على قدميه ويتحرك ..
وروع اللصوص الأذكياء بالعجوز المشلول ينهض على قدميه ويصيح فيهم بصوت يرعد :
ـ لم يبق إلا المسجد .. يا أوغاد ..
وتضخم جسم المشلول فى نظرهم ، وأصبح ماردا جبارا فى طول السقف ، وعرض عشرة من الرجال ..
وصاح أحدهم عندما رآه هكذا ..
ـ المشلول .. الجبار ..
وسقط الذى فوق أعلى درجات السلم مفزوعا بين الموت والحياة ..
وحملوه سريعا وخرجوا فى الظلام ..
وفى صلاة الفجر صعد الذى كان مشلولا إلى المئذنة وإذن ..
وما عرف إنسان قصته فقد طواها الزمان ..