كتاب المحرقة الأمريكية لإفناء البشرية
دانيال ايلسبيرغ / ترجمة: كمال حسين البيطار ومحمد إبراهيم فقيري
رؤى كابوسية مروعة ومشاهد مرعبة. هل هي نبوءة اختلست من سفر النبي ارميا أو سفر النبي دانيال أو من رؤيا يوحنا المنفي هذه التي يعرضها اليوم علينا، وتنشرها جريدة “الخليج”، دانيال ايلسبيرج وهو صحافي عتيق مخضرم ومحلل عسكري وكاتب يغوص في أعماق البعد العسكري للأحداث وأغوارها السياسية ليوافيك بصورة تقرب لك مفهوم الجبروت العسكري البشري القادر حين ينفلت شيطانه من عقاله على التدمير والإفناء الساحق الماحق الذي لا يأتي على شيء إلا جعله كالرميم. والغرب، مذ كان أوروبياً صرفاً قبل أن تنبغ له نابغة في القارة الأمريكية الشمالية وقبل أن يعتلي يهود صهوته ويقبضوا على أزمة أمره ويوجهوا سياساته ويمسكوا بتلابيب اقتصاده، ويرسموا سياساته بعد أن اتضحت قسمات وجهه الامبريالية الأنجلو أمريكية الجديدة في العصر النووي، كان هذا الغرب المتغطرس المتنرجس ينظر إلى الشرق بتوجس شديد وقلق بالغ وريبة أخذت عليه مجامع قلبه واستبدت بفكره وعقليته، فحين توهم الغرب، ممثلاً في العم سام، الذي تزعم، أن الخطر يتربص به وتهب رياحه العاتية من جهة الاتحاد السوفييتي والصين أعد ترسانته الرهيبة وتهيأ لحرب اجتثاث قد تستأصل الجنس البشري برمته.
600 مليون قتيل في الصين والاتحاد السوفييتي في الهجوم الأمريكي النووي الأول
ها هي رؤيا دانيال يسردها علينا:
في أحد أيام ربيع ،1961 وبعد احتفالي بعيد ميلادي الثلاثين مباشرة، كيف سينتهي عالمنا. ولم يكن المقصود بعالمنا، الكرة الارضية، أو كل الجنس البشري أو الحياة كما كنت أدركها حينذاك، لكن “عالمنا” كان يقصد به نصف الكرة الأرضية الشمالي.
وما تسلمته في مكتب البيت الأبيض، كان ورقة بيضاء عليها بعض الأرقام والخطوط. وكان عنوانها “أسرار عليا - بالغة الأهمية وحساسة” وتحت هذا العنوان كان مكتوباً “يقرأها الرئيس فقط”.
وما يفهم ظاهرياً من هذه العناوين، هو أن الشخص الوحيد الذي يمكنه الاطلاع على محتويات الصفحة هو الرئيس. ولكن عملياً هذه العناوين أو “الترويسات” يكون المقصود بها في الغالب أن يطلع عليها أحد أو عدد من أعوان ومستشاري الرئيس إلى جانب الرئيس نفسه بالطبع.
قتلى بالملايين
وعندما عملت لاحقاً “في البنتاغون” معاوناً خاصاً لنائب وزير الدفاع، كنت اطلع دائماً على نسخ وبرقيات معنونة لمسؤول ما ب”يطلع عليها فقط....”، وعلى الرغم من أن تلك الرسالة لم تكن معنونة لي أو لرئيسي لكنني قرأتها حينذاك لأنني كنت مستشاراً لوزارة الدفاع، ومع أنني كنت أطلع بصفة روتينية على مذكرات معنونة ب”أسرار عليا” إلا أنني لم يسبق لي مطلقاً رؤية رسالة معنونة ب”يطلع عليها الرئيس فقط”.
وقد أطلعني عليها معاون مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، صديقي وزميلي بوب كومر، وكان مغلف الرسالة يعرّفها بأنها: إجابة عن سؤال كان الرئيس جون كينيدي قد طرحه على هيئة الأركان المشتركة قبل ذلك بأسبوع واطلعني كومر على الرسالة لأنني كنت قد كتبت السؤال الذي أرسله كومر نيابة عن الرئيس. وكان السؤال الموجه لهيئة الأركان المشتركة: “لو أن خططكم المعدة لحرب نووية عامة نفذت كما هو مخطط لها، فكم من الناس سيقتلون في الاتحاد السوفييتي والصين؟”.
وجاءت إجابة هيئة الأركان في شكل رسم “أو جدول بياني” وكان المحور الرأسي في الجدول يمثل أعداد القتلى، بالملايين، وكان المحور الأفقي يمثل الوقت، مشاراً إليه بالأشهر وكان الجدول خطاً مستقيماً، يبدأ بالوقت صفر في نقطة التقاء المحورين الرأسي والأفقي، وعدد القتلى المتوقع وفاتهم خلال ساعات من بدء هجومنا ويتصاعد هذا الخط بميلان إلى أن يبلغ أقصاه في ستة أشهر، ويتقطع الخط بطريقة اعتباطية ليظهر عدد القتلى الذين سيتراكمون بمرور الوقت جراء الإصابات الأولية والإشعاعات الذرية التي ستتخلف بعد الهجوم النووي الأول.
عدد القتلى الأقل كان على الجانب الأيسر من الجدول، وكان الرقم على الجانب الأيمن “بعد ستة أشهر” 325 مليون قتيل.
وفي صبيحة اليوم نفسه، وبموافقة كومر، كتبت سؤالاً آخر لكي يرسل إلى هيئة الأركان بتوقيع الرئيس، وطلبت تفصيلاً كاملاً لعدد القتلى في العالم كله الذين سيلقون مصرعهم نتيجة هجماتنا، وطلبت تضمين ليس فقط الكتلة السوفييتية- الصينية بل كل الدول الأخرى التي يمكن أن تتأثر بالركام والغبار والإشعاعات النووية. ومرة أخرى كان رد هيئة الأركان سريعاً، فقد اطلعني عليه كومر بعد اسبوع من إرسالنا للسؤال، وهذه المرة كان الرد في شكل قائمة بشروحات على الهامش وإجمالاً توقعت هيئة الأركان مائة مليون وفاة إضافية تقريباً، في شرق أوروبا مع احتمال وفاة مائة مليون جراء الاشعاعات والغبار النووي في غرب أوروبا، وهذا الرقم يعتمد على سرعة واتجاه الرياح، وتوقعت هيئة الأركان مائة مليون وفاة على الأقل جراء الغبار النووي والإشعاع في دول أغلبيتها محايدة، مجاورة للكتلة السوفييتية أو الصين: فنلندا، النمسا، أفغانستان، الهند، اليابان، ودول أخرى، فنلندا على سبيل المثال ستمحى من الخريطة نتيجة الهجوم والتفجير الأمريكي الأرضي على الغواصة السوفييتية “بنس” في لينينغراد. “العدد الكلي للضحايا القتلى والمصابين لم يطلب ولم ترد تقديرات له، ولم ترد كذلك تقديرات لأية هجمات سوفييتية مضادة”.
العدد الكلي للقتلى بحسابات وتقديرات هيئة الأركان- الذي سينجم من الهجوم الأمريكي الأول الموجه أساساً للاتحاد السوفييتي والصين، سيكون ستمائة مليون قتيل تقريباً.
حالياً، تعود بي الذاكرة إلى ما كنت أفكر فيه عندما اطلعت على الورقة والرسم البياني عليها، وقلت لنفسي، هذه الورقة ما كان يجب أن تخرج للوجود، ويجب على الإطلاق ألا تكون ورقة كهذه موجودة لا في أمريكا ولا في أي مكان آخر، لأنها تجسيد لمشروع شيطاني لم يسبق له مثيل.
في قاعدة “كادينا”
ولا يمكن تصور أن أمراً مروعاً مثل هذا يمكن أن يحدث على أرض الواقع، لكنني كنت أدرك أن هذا المشروع ليس مجرد فكرة شيطانية خيالية، وإنما هو واقع حقيقي، فلقد شاهدت بعيني بعض القنابل الصغيرة، وهي عبارة عن قنابل هيدروجينية تنتج قوة تفجيرية تصل إلى 1،1 ميغاطن وال 1،1 ميغاطن تساوي 1،1 مليون طن من المتفجرات الشديدة، وأي قنبلة من هذه القنابل الهيدروجينية الصغيرة تعادل نصف القوة التفجيرية لكل القنابل والمتفجرات التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية. وقد سبق لي رؤية هذه القنبلة معلقة تحت مقاتلة “إف-100” “f100” وكانت تبدو متحفزة وجاهزة للإطلاق في قاعدة كادينا الجوية في أوكيناوا. وفي إحدى المناسبات وضعت يدي على واحدة من تلك القنابل، ومع أن الطقس كان بارداً في ذلك اليوم، إلا أن ملمس السطح المعدني الناعم للقنبلة كان دافئاً بسبب التفاعلات الإشعاعية بداخلها، وكان جسم القنبلة كذلك دافئاً للغاية.
وفي خريف 1959 كنت في أوكيناوا (اليابان) في بعثة عمل نظمها مكتب أبحاث البحرية الأمريكية، وكانت مهمة البعثة دراسة وتطوير الإشراف والرقابة على الأسلحة النووية في القيادة الباسيفيكية التي كانت برئاسة الادميرال هاري. د. فيلت وقد انضممت للبعثة معاراً من مؤسسة راند التي التحقت بالعمل فيها موظفاً بدوام كامل في يونيو/ حزيران 1959 بعد أن قضيت فيها فصلاً قصيراً كمستشار، وقد أخذتنا تلكم الدراسة أو البعثة الخاصة لأي موقع قيادي في الباسيفيك في تلك السنة وفي السنة التالية أيضاً، وقد بدأنا طوافنا من أواهو ثم غوام وطوكيو، وتايوان وكذلك في قيادة الاسطول السابع بإذن خاص من الأدميرال هاري فيلت يسمح لنا بالتحدث مع أي شخص ورؤية أي شيء في مجال الإشراف والقيادة النووية.
وفي قاعدة كادينا الأمريكية - في اليابان، لم يكن الطيارون في حالة استعداد في مقاتلاتهم ولم يكونوا كذلك في حالة تأهب في كبائنهم المجاورة لمهبط انطلاق المقاتلات، فقد كان يسمح لهم بالتواجد في أي مكان يرغبون في الذهاب إليه أو التواجد فيه، في مواقع تسلم واستلام المهام، أو في السكن المخصص لهم، وذلك لأن أي طيار كانت تخصص له عربة جيب - بسائق خاص - ترافقه في كل الأوقات، وتعود به إلى مهبط الطائرات في دقائق عندما تدوي صافرات الإنذار، وكانت تلك الصافرات تدوي مرة واحدة على الأقل يومياً لاختبار وتدريب الطيارين، وقال الضابط المناوب لفريقنا البحثي إن بإمكاننا اختيار الوقت لإجراء التدريب الخاص بذلك اليوم، وعندما قال قائدنا “نعم، الآن” دوت الصافرات وملأ صوتها المنطقة كلها، وظهرت فوراً سيارات الجيب في كل الطرق المؤدية الى مهبط الطائرات، وكان الطيارون يقفزون بسرعة من مركبات الجيب عندما يصلون للمهبط ويندفعون نحو قمرات المقاتلات في الوقت نفسه يحكمون وضع خوذاتهم ويتأهبون للانطلاق، ثم تبدأ المحركات في الدوران في عشر طائرات في وقت متزامن تقريباً، وتأخذ التجربة كلها - منذ دوي الصافرات حتى دوران المحركات - عشر دقائق فقط.
وقد كانت تلك الطائرات، قاذفات قنابل تكتيكية ذات مدى محدود، وكانت توجد أكثر من ألف مقاتلة منها مدججة بالقنابل الهيدروجينية، يصل مداها إلى روسيا والصين في مهابط طائرات مثل هذه أو في حاملات طائرات محيطة بالكتلة السوفييتية- الصينية.
كان ذلك في عام 1961 وكنا لانزال نسميها بالكتلة الشرقية على الرغم من أن الصين والسوفييت كانا قد انفصلا في الواقع قبل ذلك بعامين وكان باستطاعة كل مقاتلة من تلك المقاتلات تدمير مدينة كبيرة بقنبلة واحدة.
وإذا كانت المدينة أكبر أو كانت “مدينة ميترو بوليتانية” ستحتاج لقنبلتين هيدروجينيتين. وعلى الرغم من هذه القوة التدميرية الكبيرة كانت القيادة الجوية الاستراتيجية تعتبر هذه القوات التكتيكية هشة للغاية، ولا يمكن الاعتماد عليها وثانوية كعنصر في حرب نووية خارجية شاملة لدرجة أن واضعي الخطط في القيادة الجوية الاستراتيجية لم يدرجوها في حساباتهم الخاصة بمآلات وحصيلة الحرب “النووية” العامة حتى ذلك العام.
قبل 1961 كان واضعو الخطط في القيادة الجوية الاستراتيجية، يضعون في حساباتهم غارات القاذفات الثقيلة فقط، مثل قاذفات الصواريخ الباليستية والعابرة للقارات التي كانت تحت قيادة القوات الجوية الاستراتيجية نفسها، إلى جانب الغواصات الحاملة للصواريخ في القطبين الشمالي والجنوبي، وكانت المقاتلات التابعة للقيادة الاستراتيجية تحمل قنابل نووية حرارية أكبر بكثير من تلك التي رأيتها في أوكيناوا.
وكثير منها كانت قوتها التفجيرية تتراوح بين خمسة إلى عشرين ميغاطن، وأي قنبلة قوتها 20 ميغاطن تعادل 1000 مرة قوة تفجير القنبلة النووية الانشطارية التي دمرت ناجازاكي وتعادل 20 مليون طن من مادة ال”تي.ان.تي” شديدة الانفجار أو عشرة أضعاف كل أطنان المتفجرات التي أسقطتها الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. وكانت ترسانة القوات الاستراتيجية الجوية مليئة بخمسمائة قنبلة من الفئة التي تصل قوتها التفجيرية ل 25 ميغاطن. أي أن واحدة من هذه القنابل أو الرؤوس النووية تحتوي على قوة أكبر من كل القنابل والمتفجرات التي استخدمت في تاريخ كل الحروب التي خاضها الإنسان منذ بدء الخليقة.
وهذه القاذفات والصواريخ عابرة القارات موجودة كلها تقريباً في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن هذه المقاتلات قد يجري نشرها في قواعد خارج الولايات المتحدة عندما تحدث أزمة.
إن قوة صغيرة من مقاتلات “ب-52” ظلت دائماً متواجدة في القاعدة، وكثيراً من باقي المقاتلات والقاذفات بقيت في حالة تأهب، ولقد سبق لي مشاهدة فيلم مناورات مذهل يعرض سرباً من مقاتلات “ب-58” أصغر من “ب-52” ولكنها تعتبر قاذفات ثقيلة عابرة للقارات - تهبط على المدرج وتحلق منه بصورة متزامنة، بدلاً من تحليق أو هبوط واحدة بمفردها في كل مرة، والغرض من ذلك إبقاء المقاتلات في الجو وبعيدة عن ساحة المعركة بأسرع ما يمكن، في حال وجود إنذار بهجوم وشيك، وقبل أن يصل صاروخ من العدو. كما أن سرباً من المقاتلات سيشكل طلعة جوية في طريقها لأهداف محتملة أو مرصودة.
ويعرض الفيلم هذه القاذفات الثقيلة، والتي تبدو الواحدة منها كطائرة ضخمة، تسرع في الهبوط على المدرج مترادفة، الواحدة تلو الأخرى بتقارب شديد لدرجة أن الطائرة إذا ابطأت لحظة ستدكها القادمة من خلفها بكل حمولتها من البترول والأسلحة النووية الحرارية، وبعد أن تهبط المقاتلات بتلك الطريقة المتزامنة الدقيقة للغاية، تحلق سوية كسرب طيور روعته رصاصة فجفل فجأة، وبالنسبة لي كان ذلك المشهد مذهلاً، لقد كان رائعاً.
وكانت الأهداف وفقاً للخطط الموضوعة للقوة كلها تتضمن - إلى جانب المواقع العسكرية - أي مدينة في الصين والاتحاد السوفييتي.
وفي حاملات الطائرات، تقلع القاذفات، الأصغر، التكتيكية، بمساعدة جهاز ضخم أشبه بالمقلاع، بيد أن خطة الحرب النووية العامة، كما أعرفها، تتطلب انطلاق معظم الطائرات والصواريخ - الجاهزة ساعة التنفيذ - بأقصى تزامن ممكن لمهاجمة أهداف محددة سلفاً بخطة مسبقة، وكانت التحضيرات تتوقع أو تأخذ في حساباتها هجوماً عالمياً قاسياً جداً كما لو كانت كل المركبات برؤوسها النووية ال ،3000 ستقذف بمقلاع واحد.
ومع حلول العام 1961 فإن القاذفات التكتيكية - التي اصطلح على تسميتها “خطة العمليات الموحدة المدمجة” أو “siop”، كان المقصود بها أن استراتيجيتها المضمنة تعتبر مجرد عملية ضخمة لنقل الرؤوس النووية الحرارية للمدن والمواقع العسكرية السوفييتية والصينية.
والأخيرة كانت تشكل معظم الأهداف، لأن كل المدن يمكن تدميرها بجزء صغير من مركبة هجومية.
إن أحد التأثيرات الأساسية المتوقعة، التي يمكن أن تنجم جراء الدمار المصاحب، كانت ملخصة في تلك الورقة التي أمسكت بها في ذلك اليوم من خريف 1961 وهي باختصار: إبادة أكثر من نصف مليار نسمة.
في الواقع هذه تقديرات متواضعة للغاية لعدد الضحايا. فقد كشف د. لين إدين وهو باحث في مركز ستانفورد للأمن والتعاون الدولي في كتابه “العالم بأكمله فوق النار” “صدر في 2004 من دار كورنيل”، كشف الحقيقة الغريبة التي مفادها أن مخططي الحرب في القيادة الاستراتيجية الجوية وهيئة الأركان المشتركة - تعمدوا طوال العصر النووي حتى اليوم - حذف وطمس أجزاء أو عوامل من الآثار التدميرية للهجمات النووية الأمريكية أو الروسية. وهذا الجزء يتعلق بآثار النيران في الحرب النووية.
وقد تعمد واضعو خطط الحرب إغفال هذا الجانب بحجة أن هذه الآثار من الصعب توقعها أو تقدير محصلتها بعكس التفجيرات والإشعاعات النووية التي يقول مخططو الحرب النووية، إن حصر آثارها ممكن. ومع كل ذلك تعتبر العواصف النارية الناجمة عن الأسلحة النووية الحرارية أكبر سبب للكوارث والضحايا في أي حرب نووية! إذا علمنا أن الدمار الإشعاعي الناجم من العواصف النارية النووية سيكون أكبر بمرتين إلى خمس مرات من الإشعاع التدميري الناتج عن الانفجار النووي، وهكذا فإن التقديرات الأكثر واقعية لعدد الضحايا الناجم مباشرة من خطط غارات أمريكية، سيصبح بالتأكيد ضعف الرقم الذي كان مسجلاً في الورقة الملخصة التي اطلعت عليها، فعدد الضحايا - واقعياً - يفترض أن يقدر بمليار نسمة أو أكثر.
النية المعلنة لنشر الأسلحة النووية بحسب الخطط الأمريكية، هي منع الغزو السوفييتي
مواجهة أي هجوم سوفييتي
.. ولكنني أعلم الآن شيئاً نادراً ما كان يقال للشعب الأمريكي، ذلك أن المسؤولين الأمريكيين كانوا يحشدون كل هذه الترسانة النووية ليس فقط لمنع هجوم أو غزو نووي سوفييتي، بل ولمنع عدوان عسكري سوفييتي تقليدي - غير نووي - أيضاً، وكانت أوروبا هي المستهدفة بهذا الغزو. وفي كلتا الحالتين كانت الخطط الأمريكية مصممة كلها لمنع الهجمات السوفييتية والحيلولة دون وقوعها قطعياً. وهذه الترسانة النووية الأمريكية وضعت على أمل ألا يتم استخدامها، فشعار القيادة الجوية الاستراتيجية الذي تجده بارزاً في كل قواعدها، هو “السلام مهنتنا”.
إيقاف أي غزو - غير نووي - سوفييتي على أوروبا، كاحتلال عسكري لبرلين الغربية مثلاً، كان يعتمد على التزام الرئيس الأمريكي بتوجيه ضربة نووية أمريكية للاتحاد السوفييتي.
وفي هذه الحالة فإن شعار أو مهنة القيادة الجوية الاستراتيجية سيتحول بسرعة من السلام إلى الحرب، والقيادة الاستراتيجية الجوية تتدرب يومياً بفعالية، لكي تكون مستعدة لتنفيذ المهمة. وثمة التزام أمريكي بالدفاع عن دول حلف الاطلسي باستخدام التهديدات النووية، والغارات النووية الاستراتيجية الاستباقية، إذا اقتضت الضرورة ذلك.
ومن شأن هذه الغارات أن تنقل شرارة أو زناد الحرب النووية للسوفييت.
واحتمال أن يزيد السوفييت هذه الشرارة اشتعالاً، أو يسحبوا الزناد، يعتمد على خططنا وتجهيزاتنا النووية، فقد كان مفهوماً أن الوقاية كانت الهدف الاساسي الذي صنعت من أجله ترسانتنا النووية، إلا أن ذلك الهدف لم يكن تحقيقه مؤكداً، وهذا ينطبق على منع أو الوقاية من الهجوم النووي وأيضاً الهجوم بالأسلحة التقليدية من طرف السوفييت على أوروبا.
وفي أية حالة، لم يكن مستحيلاً أن يشن السوفييت هجوماً على الرغم من تهديداتنا وبذلنا أقصى الجهود لمنعهم وإيقافهم.
آيزنهاور وافق على خطط “تدمير الكتلة السوفييتية الصينية”
على مر السنين شهدت هذه المسائل جدلاً سرياً كثيفاً، بيد أن الخطط السرية التى أجازها الرئيس دوايت آيزنهاور والمتعلقة بالتهديدات السوفييتية كانت جلية وقاطعة وتتلخص في هذه العبارة: “تدمير الكتلة السوفييتية - الصينية” .
تلك الخطط كانت تشمل جزئيات سرية، تدعو لتطبيق نفس استراتيجيات الرد وقوائم الأهداف، في كل حالات الحرب العامة الثلاث المحتملة .
الاحتمال الأول والأكثر ترجيحاً على حسب تقديرات هيئة الأركان المشتركة كان مبادرة الولايات المتحدة بشن هجوم نووي يأتي في أعقاب تصاعد حدة القتال بالاسلحة التقليدية بين القوات الأمريكية والسوفييتية، والاحتمال الثاني، أن توجه الولايات المتحدة ضربة للاتحاد السوفييتي إذا لاح في الأفق خطر هجوم نووي سوفييتي وشيك، الاحتمال الثالث والأقل ترجيحاً بالنسبة لهيئة الأركان المشتركة كان شن الولايات المتحدة هجوماً مضاداً ترد به على هجوم سوفييتي ناجح ومفاجئ .
ومع أن حجم القوة الأمريكية المتوفرة للهجوم سيكون مختلفاً في كل حالة من هذه الحالات فإن الخطط التي أقرها آيزنهاور ودعت الى لائحة الاهداف ذاتها التي اشتملت على “151 هدفاً صناعياً ضمن المدن” أي أنها وبوضوح تستهدف المدن اضافة الى اهداف عسكرية ستتم مهاجمتها في كل الأحوال والظروف .
أما الظروف والملابسات التي ستؤدي الى اندلاع الحرب النووية فإنها لن تؤثر، بتحديدها وتقريرها لحجم القوة سوى على مقدار تغطية قائمة الأهداف . فالهجمات الأولى ستكون من الكثافة المهولة والشمول والانطلاق بتوقيت واحد وبلوغها أهدافاً في ذات اللحظة بحيث تحدث دماراً هائلاً لم يشهد له العالم مثيلا ولا حتى في هيروشيما وناغازاكي، وسوف يعقب هذا هجوم تشنه قوات أخرى غير قوات الاستنفار الدائم وسينطلق هذا الهجوم بسرعة فائقة مذهلة هو الآخر، وسيتم ادخال كل الفيالق والقطع العسكرية إلى هذه الحروب ولن يتخلف أحد عن المشاركة فيها: وربما كان هذا، على الأرجح، ترتيباً متفرداً في تاريخ التخطيط الحربي .
وفي الحالات الثلاث جميعها فإن كل المدن الكبرى في كل من الاتحاد السوفييتي والصين (وحتى إن لم تكن للصين ناقة ولا جمل في الأزمة ولم يكن لها ضلوع في الأعمال العدائية التي تقدح زناد تنفيذ هذه الخطة)، كانت تتصدر قائمة الأهداف التي ستتعرض للهجمات الصاروخية الأولى المتزامنة وتتلقى موجات القصف الشامل الذي ستتولى تنفيذه بعد الضربة الصاعقة الأولى أسراب ضخمة من القاذفات التي ستمطر بحممها من الجو أهم مواقع الصواريخ السوفييتية، والقواعد الجوية والدفاعات الجوية ومراكز القيادة .
وفي البيت الأبيض، كنت أطلعت في يناير/ كانون الثاني من العام 1961 مساعد الرئيس للأمن القومي ماكجورج باندي، الذي كان وصل إلى المنصب منذ برهة وجيزة، على عدد من الحقائق والمشاكل التي كانت معروفة على نطاق ضيق جداً .
سوف أروي لاحقاً الكيفية التي توصلت بها إلى هذه المعلومات وسأسرد تفاصيل ما حدث، وإحدى هذه الحقائق كان التركيز على خطط الضربة الأولى في لجة التحضيرات والتعبئة والاستعداد الأمريكي لأي صراع مع الاتحاد السوفييتي، يشتمل على الزج بقوات يزيد عددها على فرقة، وثمة معلومة أخرى أخبرته بها يومها، وهي موافقة آيزنهاور ومصادقته على التخطيط العملياتي لتدمير “الخليط الأفضل” من الأهداف ذات الكثافة السكانية العالية، إضافة الى مواقع عسكرية، وذلك بغض النظر عن كيفية اندلاع هذا الصراع .
أما الموضوع الثالث الذي أتيت على ذكره في محادثتي القصيرة تلك فتركز حول الطرق المتنوعة التي يمكن أن تستفز بها القوات الاستراتيجية “بحادث عارض، عن طريق المصادفة” بإنذار كاذب، أو خطأ في الحسابات أو خلل وقصور في الاتصالات، أو أعمال أو تصرفات غير موجهة من قبل الرئيس مباشرة، أو ربما أفعال أو تحركات يوغر بها أي قائد رفيع الرتبة كان استجلاء هذه الاحتمالات وسبر أغوارها واستكشاف آفاقها في الميدان هو المهمة الخاصة التي أنيطت بي إبان عملي في فرقة المهمات في القيادة العامة لقوات المحيط الهادي، وكذلك عملي لاحقاً بصفة خبير متخصص في الأسلحة النووية “القيادة والتحكم” في مؤسسة راند .
وكانت النقطة الأخيرة هي التي استرعت انتباه باندي واهتمامه بشكل خاص . وأوردت في تقرير أعددته ما كنت تعلمت في المحيط الهادي، وكان أحد أخطر الأسرار في النظام وأكثر حساسية: وهو أن ندرك مقدماً ونتهيأ لاحتمال أن يتعرض ردنا الثأري للشلل جراء إما هجوم يشنه الاتحاد السوفييتي على واشنطن، أو نتيجة عجز الرئيس وعدم قدرته، وكان من أندر النوادر بالنسبة للرئيس آيزنهاور منذ سنة 1958 أن يفوض القادة الميدانيين للاضطلاع بصلاحيات شن عمليات نووية في أزمة ما، سواء في حالة الغياب الفعلي الملموس للرئيس آيزنهاور بتعرضه لنوبة قلبية وسكتة دماغية مباغتة في مكتبه، أو إذا حدث انقطاع في الاتصالات مع واشنطن .
كما علمت أيضاً أن الادميرال هاري فيلت قائد أركان القوات البحرية الأمريكية في المحيط الهادي فعل شيئاً مماثلاً فأوكل تلك الصلاحيات إلى من تحت إمرته من القادة إذا طرأت ظروف وأحوال مشابهة . وكان من شأن هذا النهج أن وضع أصابع عدة على زر الاطلاق في حال انهار نظام الاتصالات بين واشنطن وهاواي، أو هاواي وغربي المحيط الهادي . وفي تلك السنوات كانت مثل هذه الأعطال شائعة جداً وتحصل في كل واحدة من هذه الوصلات بمعدل مرة واحدة في اليوم . لذا فإن هذا التدبير ضخم، وبدرجة عظيمة جداً . الاحتمالات التي استعرضناها آنفاً والتي أدرجناها تحت عنوان حرب نووية “غير متعمدة ناجمة عن الاهمال أو الغفلة”، وبخاصة إذا حدث الانقطاع أو التوقف خلال أزمة نووية محتملة مثل أزمة مضائق تايوان، أو مواجهة كنمن (ارخبيل الباب الذهبي) سنة 1958 حين هددت الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي ضد جمهورية الصين الشعبية اذا اعتدت على أرخبيل جزر كنمن (وسوف أتناول في مقالات لاحقة استجابة ورد إدارتي كل من كنيدي وجونسون على هذه المواجهة) .
الإبادة غير المقصودة
ويذهب فحوى الرسالة التي نخلص إليها من مجمل هذه التقارير التي تدفق سيلها إلى أن نظامنا التعبوي العام والكلي للرد الاستراتيجي يتسم بأنه قابل لتفجير الأوضاع بشكل مروع ومأساوي ينذر بأعظم الكوارث ولا يتوقف انفجار مصائبه الرهيبة سوى على النزر اليسير من الاستفزاز الذي قد لا يكون متعمداً ولا مقصوداً في أغلب الأحيان، فكان هذا النظام المستنفر على الدوام أشبه ما يكون بمصيدة فئران عملاقة هائلة تفتح أبواب الجحيم النووي ليحرق الشطر الأعظم من كوكبنا لدى ضغط شعرة لا وزن لها على الابرة في هذا الفخ الجهنمي الكالح البشاعة . ونصبت مدافع هذا الآتون النووي الموغل في شناعة أهواله بحيث تنطلق عند استشعارها لأدنى استفزاز ولو كان متوهماً، ودونما شن أي هجوم سوفييتي نووي ومن دون توقع حقيقي لغارة نووية وشيكة ومباغتة، فتبيد بسيل قذائفها النووية الشطر الأعظم من السكان المدنيين في الاتحاد السوفييتي والصين وكثير من الحلفاء والمحايدين إبادة جماعية لا تبقي ولا تذر .
ولقائي بباندي الذي حاولت من خلاله الاستفسار منه عن كل شيء مهم يشغل بالي أثناء الأسابيع الأولى لتوليه منصبه، هذا الاجتماع الذي كان رتبه بول نيتز مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي كان في جزء منه هو السبب الذي وضعني في موقع يمكنني من تدبيج مسودة الأسئلة التي كان لي أن أطرحها لاحقاً على البيت الأبيض فأثير من خلالها قضايا جدلية بعد برهة وجيزة . والأمر كما حدث، هو أنني وضعت مسودة السؤال بشأن عدد البشر المتوقع أن يهلكوا عند تنفيذ خطط الحرب العامة، إذ كنت أعتقد ان قيادة الأركان العامة لم تكن تدري بما تجيب به عن مثل هذا الاستفسار، وكان الضباط الذين عملت معهم في فريق التخطيط في قيادة القوات الجوية على قناعة بأن لا أحد، سواء في قيادة الأركان المشتركة أو في القوات الجوية قد تولى على الاطلاق حساب عدد الوفيات والمصابين والعواقب على صعيد الخسائر البشرية الإجمالية إذا وضعت تلك الخطط موضع التنفيذ . وكان هذا ما شجعني على أن أسأل قيادة الأركان المشتركة باسم سلطة أعلى أن تقدم تقديراتها التي تتوقعها، وكنت من جهتي أتوقع أن يوقعهم هذا التوجه الاستفساري في حرج شديد، إذ سيتعين عليهم الاعتراف بأنه ليس في استطاعتهم الاجابة عن مثل هذه الأسئلة فوراً وبسرعة تنم عن ادراك واضح ودقيق للأمور وتبصر بالعواقب .
[right]قتل 600 مليون انسان
ومن حين لآخر كنت أتوقع أن تقوم قيادة الأركان المشتركة بارتجال تقديرات يمكن بسهولة كشفها وتعريتها بصورة محرجة للقيادة، بصفتها تقديرات متدنية بشكل غير واقعي . وكان الغرض من استنباط أي من هذه الاستجابات المتوقعة هو حيازة قوة تفاوضية لوزير الدفاع في مسعى بيروقراطي (سوف أناقشه لاحقاً) لتغيير خطط قيادة الاركان المشتركة باتجاه التوجيه الذي وضعت مسودته ورفعتها إلى وزير الدفاع مع بداية ذلك الشهر .
إلا أن توقعاتي كانت خاطئة . إذ لم تشعر قيادة الأركان بأي حرج، لا من السؤال ولا من الاجابة التي قدموها . وكانت تلكم هي المفاجأة، إضافة إلى الجواب نفسه الذي فاجأني هو الآخر . فالمضامين التي انطوت عليها تلك الخطط، كما رأيتها، كانت وجودية ومصيرية بامتياز، ولست أقول هذا على سبيل المجاز بل أقرر هذا حرفياً، إذ كانت الفاجعة الكبرى التي أتوقع حدوثها فيما لو انطلقت الحمم من فوهات المدافع والصواريخ هولاً عالمياً يدمر الطبيعة وقد يبيد الجنس البشري أو معظم سلالات الإنسان على كوكبنا .
ولم أكن أنا ذاتي مناهضاً للحرب في تلك الفترة ولم أكن أيضاً أنتقد وقتها المنطق الصريح البيّن في الردع أو أنال من أو اعترض على مشروعيته . وكنت أعمل مع زملائي بشكل دؤوب لضمان حفاظ الولايات المتحدة على قدرتها على الصمود والبقاء والنجاة في كل الظروف . وكان لدي حرص كذلك على أن تكون لدينا قدرات هائلة تمكننا من الحاق هزيمة بالاتحاد السوفييتي وإيقاع خسائر فادحة في حال اضطررنا للرد على أنجح هجوم يشنه الاتحاد السوفييتي على الولايات المتحدة . ولكن ماذا عن التخطيط لذبح 600 مليون إنسان من المدنيين، أي التخطيط لقتل عشرة أضعاف من قتلوا في الحرب العالمية الثانية؟ هذا الإنجاز الذي كنا نتوخاه ونصبو إليه كان هو عار الدهر والخزي الأكبر الذي يجللنا ويعري جنوننا المطبق وحمقنا وفقدنا لصوابنا والظلام المعشش في أعماق روحنا والعتمة التي تخيم على تخطيطنا النووي وتعمي بصيرة القائمين على هذه القدرات المهولة الجبارة وتدفعهم إلى تهور يقود إلى فناء البشرية .
وقد كنت قلت آنفاً انني رأيت بعين بصيرتي كيف سينتهي العالم المتحضر الشمالي .
وربما كان لي أن أفكر عوضاً عن ذلك وقتها كيف يمكن لهذا العالم الشمالي أن ينتهي، إلا أن هذا لم يكن هو التصور الذي خلصت إليه آنذاك . فالميثاق الذي كان بين يدي في صباح ذلك اليوم الربيعي انما كان يقول لي ويصرخ في وجهي بأعلى صوته ليؤكد أن لا أساس البتة ولا مستنداً لمن يتوهم أن قوات الانذار المبكر على الجانبين كليهما لن يتم استخدامها أبداً، وأن ضبط الأمور يخضع لهيمنة كاملة من جهاز ضبط وربط يتمتع بالحكمة والتعقل بدرجة كافية تحول دون وقوع الواقعة وتفجر الكوارث العظام . لقد تبدد في ذهني كل أمل بأن ثمة أماناً وأمناً يطمئن إليه القلب ويمكن أن يراهن عليه مع وجود هذا النظام المملوء بالثغرات والذي يهدد بتدمير مدن كبرى بأكملها ومحوها من على الخريطة .
فالأمريكيون، الذين صنعوا هذه الآلة، وهم يدركون كما تبين، أنها ستقتل أكثر من نصف مليار إنسان إذا دارت رحاها وأفلت عفريتها من القمقم، والذين لم يخجلوا ولم يتجلجلوا من رفع التقارير بهذا الشأن إلى الرئيس بهذه الطريقة لن يتورعوا عن إدارة المفتاح في القفل وقدح الزناد لاطلاق شرارة هذا الجحيم النووي إذا ما أمرهم الرئيس بهذا، أو إذا أوعز بالانطلاق، كما سأناقش المسألة في وقت لاحق في مقالة ستلي هذه، مسؤول آخر غير الرئيس تناط به هذه الصلاحية .
وماذا عن الرؤساء أنفسهم؟
قبل هذا ببضعة أشهر كان الرئيس دوايت آيزنهاور قد صادق سراً على هذه الخطة وأقر وتبنى مسودات هذا المشروع الذي تتولى فيه هذه الآلة القيام بعملية إبادة جماعية على نطاق مهول لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل . بل إن الأدهى من ذلك أنه أمر لأسباب مالية بحتة في معظمها وتتعلق بالميزانية، باعتماد هذه الخطة لا سواها ونبذ خطة مقاتلة الروس . لقد وافق على خطة العمليات الاستراتيجية المفردة هذه على الرغم من أن التقارير أوردت، أنه ولأسباب أفهمها وأدركها الآن، قد روعته العواقب الوخيمة الناجمة عن تطبيقها والتي وصفها له الخبراء التقنيون . وكانت استجابة رؤساء الأركان وردهم على السؤال الذي توجه به خلفه جون كينيدي مستفسراً عن الآثار الإنسانية المترتبة على شنّ هذه الهجمات التي خطط لها دهاة العسكر عندنا، كان هذا الرد سريعاً لأنهم وبوضوح افترضوا أن جون كينيدي لن تكون ردة فعله على هذا أن يأمرهم بتقديم استقالاتهم، أو أن يسرحهم من الخدمة بطريقة مهينة مذلة، ولن يوعز بتفكيك هذه الآلة (وفي هذه المسألة تبين أنهم كانوا على حق في افتراضهم بأن الخطة لن تسخطه أو تزعجه) .
وبالتأكيد فإن أحداً من هؤلاء الرؤساء لم يكن يرغب أبداً في أن يأمر بتنفيذ هذه الخطط، كما لن يود أي خلف محتمل للرئيس أن يتخذ هذه الخطوة أو أن يتولى كبر هذا العمل إلا أنهم لا بد وأنهم كانوا يدركون أو كان ينبغي أن يعوا المخاطر الهائلة الكامنة في السماح لهذا النظام أن يوجد في المقام الأول . وكان ينبغي أن يتفكروا ويتدبروا ويتأملوا بعمق ويتبصروا في العواقب ليقفوا وقفة توجس ترتعد فيها قلوبهم وهم يتصورون مجرد تصور الاحتمالات الرهيبة والحالات الطارئة المرجحة التي يمكن أن تشعل فتيل حرب نووية لا يمكن تصور أهوالها وحشد الاحتمالات يشمل: الإنذارات الكاذبة، وأعطال الاتصالات، وتصرفات وأعمال سوفييتية يساء فهمها من قبل صغار القادة، والأفعال التي يقوم بها أفراد دون تفويض أو تصريح، والتي يمكن أن تطلق العنان لقوى حبيسة تخرج عن السيطرة . كما ينبغي ألا يغيب عن بال القادة الخطر الماثل في التطورات المحتملة التي يمكن أن تقودهم شخصياً إلى التصعيد أو شن هجوم استباقي يوقد نار حرب شاملة تحرق الأخضر واليابس وتدع نصف كوكبنا على الأقل يباباً خراباً تنعق فيه الغربان، اللهم إن بقي غربان تنعق .
رتأى ايزنهاور واختار أن يقبل بهذه المخاطر .
ولكي يفرضوا هذه المخاطر الماحقة على بني الإنسان، وعلى غير البشر من الأحياء، وكأنها ضربة لازب، أو قدر محتوم لا مفر منه سار كينيدي وليندون جونسون حسب علمي على النهج ذاته، ولم يشذوا عن هذه الخطة، وما علمنا قط أنهم أحسوا يوماً بوخز الضمير، وكذا صنع ريتشارد نيكسون، ومن أجل ربط الماضي بالحاضر لا بد لي من القول إن فيض الأدلة الدامغة يملي عليّ الاعتقاد الجازم بأن ساسة أمريكا الكبار كافة تشربوا خطة الهول والقتل الجماعي المروع هذه وإن كل من جاء في أعقاب أولئك الذين ذكرت من الرؤساء أقر الخطة ولم يجد فيها بأساً ولم يجد غضاضة في وضعها موضع التنفيذ إذا لزم الأمر ولاحت الفرصة .
الشتاء النووي
غاب عن مخيلتي في تلك الأيام ملمحان ووجهان آخران إضافيان من أوجه مقامرتهم تلك في غمرة أحداث عام 1961 ولم أتبنيهما إلا لاحقاً، والروايات التي سأتطرق إلى ذكرها في مواضع أخرى من هذه السلسلة ستكشف النقاب عن أنه في أزمة جزيرة تشينمين (كينمين) قبل ذلك بثلاثة أعوام، وفي لجنة أزمة الصواريخ الكوبية بعدها بسنة- وبدرجة أقل في نحو من 25 حادثة أخرى اقتربت هذه المخاطر من التحقق فكانت قاب قوسين أو أدنى من التجسد بشكل موغل في المأساوية ولا يخطر على بال بشر إلى يومنا هذا إلا أن هذه الأمور كانت تتسربل بالغموض والسرية وقتها، ولم يكن أكثر الناس يدرون بخطورتها .
والأدهى من ذلك أن نطاق الكارثة الكبرى المحتملة ومداها كان ولايزال أعظم بكثير جداً مما استطعت أن أتخيل، وأكبر بما لا يقاس مما تصوره حتى رؤساء الأركان المشتركة أو أي من رؤساء أمريكا على مدى السنوات العشرين التي تلت، كان الأمر وببساطة خارج نطاق التصور البشري المألوف . واستغرق انبلاج الحقائق حيناً من الدهر أمضيناه ننتظر مجيء فترة 1982- 1983 حتى تكشف لنا حسابات جديدة، وجرى تأكيدها مؤخراً، النقاب عن أن سحباً دخانية وغيوماً هوجاء من سخام وسناج تمخض عنها اختراق المدن التي تتعرض للهجوم من قبل الولايات المتحدة أو القوات الروسية ستحجب نور النهار وأشعة الشمس لردح طويل من الزمن، لتنخفض بذلك درجات الحرارة بشكل بالغ القسوة خلال فصلي الربيع والصيف، وتتجمد البحيرات والأنهار وتتلف المحاصيل والزروع في جميع أصقاع الأرض، ويمكن لهذا “الشتاء النووي” أن يقضي على كثير من أشكال الحياة على ظهر البسيطة، وأن يقذف بالمليارات من البشر في هاوية التضور جوعاً حتى الموت . ولدى كل من أمريكا وروسيا حالياً نحو من 10 آلاف رأس نووي، حيث جرى فعلياً وعملياتياً نشر اكثر منها . (كما أن لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا عدة آلاف من الرؤوس النووية الاحتياطية التي لم تغطها جولات المفاوضات التي أجريت في الآونة الأخيرة، هذا إضافة إلى 5 آلاف رأس نووي آخر أو نحو هذا العدد من الرؤوس التي تنتظر التفكيك) . وكان الرئيسان باراك أوباما وديميتري ميدفيديف قد اتفقا على خفض عدد الرؤوس النووية الحربية العملياتية إلى ما بين 1500 إلى 1675 رأسا بحلول سنة 2012 . غير أن انفجار ألف رأس نووي يفجرها كل من أمريكا وروسيا في وقت متزامن يمكن أن يحدث شتاءً نووياً على نطاق واسع وتظهر الدراسات التي أجريت مؤخراً بوضوح إمكانية وقوع كارثة بيئية ضخمة تنجم عن تأثيرات الأدخنة على طبقة الأوزون إثر تبادل إطلاق قذائف وصواريخ نووية على نطاق أضيق بكثير جداً، مثل ما يمكن أن يحدث بين الهند وباكستان .
والأسئلة التي ينبغي أن تطرح بداية بسيطة: “فكم عدد ما سيحترق من مدن بعد تعرضه لهول “خياراتنا” المتنوعة المخطط لها سلفاً”؟ وكم عدد من سنزهق أرواحهم من البشر جراء الهجمات المتعددة ونتيجة الانفجارات والسقط النووي المهلك والدخان المميت والسخام والسناج، وكم هي كمية الأوزون التي ستنضب جراء هذا وهل سيتبقى أصلاً من الأوزون ما يكفي لتستمر به الحياة في البلد المستهدف وفي المناطق المجاورة له في أمريكا وفي كافة أرجاء العالم؟
وهذه هي الأسئلة الأقل بساطة التي يجب أن تطرح: “بالنسبة لكل خيار من خيارات هذا الهجوم المحتمل ولتبادل القصف التدميري، ما هو التأثير المحتمل على البيئة الاقليمية والعالمية وما مداه”؟
[/right]