عبد اللطيف مهناتتعدد مظاهر لوثة الإسلاموفوبيا، أو هذا الرهاب المرضي الذي يعم وباؤه هذه الأيام المجتمعات الغربية، وهي للأسف إلى تصاعد. وهذا التصاعد، وإن بدا في بعض حالاته عشوائياً ومعزولاً ومستنكراً من قبل شرائح ونخب في مجتمعاته نفسها، أصبح مع الأيام أكثر فأكثر لا يعدم شبهة المدروس والمبرمج والهادف وغير المعزول عن هذا الصدام التاريخي المتصاعد، ليس بين الحضارات كما يزعمون، ولكن بين هذا الغرب المتجبر بمستعمريه وصهاينته والعالم العربي والإسلامي المستضعف، الذي يكاد يتفرد اليوم وحده بكونه الحاضن والبيئة المفرّخة لما كان يُعرّف في العالم بحركات التحرر، والذي تتنامى فيه هذه الأيام ثقافة المقاومة، وتتصلب في جنباته إرادة المواجهة للهيمنة الغربية… الهيمنة التي كانت قد بدت للعالم أشبه بالقدر الذي لا راد له بعد أن وضعت ما تعرف بالحرب الباردة أوزارها اثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
نعم، هناك تراث أوروبي تليد من العداء المتراكم للاسلام الكامن في الخلفية الذهنية الأوروبية، هو حتى سابق لحروب الفرنجة، أو ما يعرف بالحروب الصليبية، بل وتمتد جذوره حتى بدايات فجر الإسلام، أو دحر الامبراطورية الرومانية، وطردها مما يعرف اليوم بالعالم العربي، الذي تحول في حينه إلى واحدة من كبرى الامبراطوريات في التاريخ، تمتد حدودها من الصين شرقاً وحتى جبال الباسك غرباً. بل ويمكن ملاحقة هذه العقدة المستحكمة إلى ما هو أبعد، وصولاً إلى حنا بعل، بمعنى أن أوروبا كانت عبر تاريخها ترى أن الخطر يأتيها دائماً عبر الضفة الأخرى للبحر المتوسط… لكن، ومع أخذ هذا الموروث في الاعتبار، باعتباره يشكل بيئة جاهزة لاشعال فتيل هذا الرهاب، فلا بد لنا أيضاً من عدم إغفال المستجد الكامن وراء راهنه المتصاعد، هذا الذي يجري إذكاؤه اليوم عبر آلة إعلامية هائلة ومؤثرة، كانت ولم تكن يوماً مستقلة عن مشاريع الهيمنة الغربية، أو هي معزولة عن تأثير من يحركها.
لعل الملحّ الذي يدعونا اليوم لأن نتذكر كل هذا ونضعه في حسباننا، هو ما نلحظ من ردود الأفعال العربية والإسلامية، التي عكسها هذه الأيام الإعلام العربي والإسلامي، ولا نقول المواقف الرسمية المعلنة، تلك التي هي غير المعزولة عن الحاجات الدبلوماسية وعلائق الأنظمة قرباً أو بعداً مع هذا الغرب… ردود الأفعال على مسألة التهديد بحرق نسخ من القرآن الكريم من قبل قس فلوريدا الأمريكي قبل أيام، وهي ردود أفعال في أغلبها قد تميزت إما بالسطحية أو مغبة الضياع في التفاصيل والتخبط في متاهاتها بعيداً عن ذاك الكامن الدافع وراء مجملها وجوهرها.
لقد كانت هذه سمة تميزت بها كافة ردود الأفعال هذه حيال كافة المحطات السابقة، أو سائر الأحداث البارزة التي عكست مظاهر هذا العداء المفرط، أو سمات هذا الرهاب المتفاقم، وآخره هذه الحادثة التي مر ذكرها، حيث يمكننا العودة بأثر رجعي لنشاهد مثلها قد تكررت بالنسبة لحوادث مماثلة وغير منقطعة، من مسجد نيويورك وصولاً إلى رسوم الكرتون المسيئة للرسول الأكرم، مروراً بحكاية الحجاب التي بدأت في فرنسا وانتهت بحظر النقاب، وكذا حظر بناء المآذن الذي بدأ في سويسرا وقد يمتد إلى سواها ولن ينتهي فيها، واجمالاً ما يلقاه مسلمو الغرب من ترهيب وملاحقات وتجسس حتى على نواياهم، أو سائر ما يواجهونه و سيواجهونه من معاناة وتضييق والعيش تحت طائلة تهمة الارهاب إلى أن يثبتوا العكس!
هناك جملة من الأسباب، لكنما الآنية في أغلبها، لهذه الموجة من الكراهية التي لاحقتها وسائل الإعلام العربية والمسلمة وتوقفت أمامها وكانت في ذلك محقة فعلاً، بيد أنها، أو أغلبها، قد ضاعت في تفاصيلها، بل إن بعضها، مثلاً، عالج حكاية قس فلوريدا المأفون بأسلوب أقرب إلى الإثارة ثم لم يلبث أن انقلب مركزاً على مظاهرة محدودة الحجم والمتظاهرين جرت في إحدى ساحات بلدة هذا القس يتضامن فيها بعض أهاليها مع مواطنيهم المسلمين ويوزعون الأطعمة على المتسولين… وحتى أن البعض قد قرن كل أسباب هذه الكراهية، أو كافة مظاهر هذا الرهاب المتفاقم، بمأساة أيلول النيويوركية واستراح!
وهنا، يمكن القول أنه ورغم كون ذكرى هذه المأساة تمثل حالة ضاغطة في الولايات المتحدة تحديداً، فقد تميزت هذه المرة بجلبها معها فزعاً أكبر من سابقاتها اصاب المسلمين الأمريكان، وشكلت وتشكل أفضل ما يمكن أن يُستخدم كحجة أو ذريعة لصياغة وعي شعبي لحمته وسداه العداء للإسلام وبررت مساعي ترسيخه، وهو الأمر الذي بات أخطر بكثير من مسألة استخدام هذا الرهاب وما ينجم عنه من كراهية، في المعارك الانتخابية، أوالصراع المحتدم بين الجمهوريين والديموقراطيين، أو تفادي تراجع شعبية أوباما المتآكلة، إلى آخر ما عدده هذا الاعلام وركز عليه…
نعم، هناك تحالف راهن بين الأزمة الاقتصادية المستشرية في الولايات المتحدة والمحافظين الجدد والصهاينة المسيحيين واليهود، ومعهم دعاة خطاب الكراهية من العنصريين، ووسائل الإعلام (فوكس نيوز مثلاً) التي ما انفكت تصب النار على الزيت، كما أن هذه اللوثة تشكل مادة دسمة لانتهازية السياسيين، أو جبنهم، وفرصة لتساوقهم مع الموجة وركوب متنها، بيد أن أخطر ما في الأمر هو مسعى تصوير كافة مشاكل الولايات المتحدة على أنها إنما بسبب من “الإرهاب الإسلامي”، أو محاولة الربط بين الإسلام وما يدعى الإرهاب. وكذا ما يتوازى من إثارة الرعب في أوروبا من الخطر الإسلامي الداهم المزعوم، أو التحذير مما يطلقون عليه “أورابيا”، أو أوروبا المعرّبة، حيث تُدق هناك نواقيس هذا الخطر من مواقع مختلفة وخلفيات دائماً واحدة.
خلاصة القول، أن الغرب عبر تاريخه لا يعيش بلا عدو، ولا يمكن لشتات سياساته أن يوحدها هدف سوى الإجماع على مقارعة هذا العدو الضرورة. كان هذا الهدف ذات يوم هو الخطر الأحمر، وكان ما يوحده حينها هو الانغماس فيما كانت تدعى الحرب الباردة، فلما زال هذا الخطر بزوال الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية التي لحقت بهذا الغرب، وتراجعت على الأثر فعالية قوى حركات التحرر الدولية المقارعة للهيمنة الغربية، بعد أن فقدت نصيرها بزوال ثنائية القطبية، تلفت الغرب باحثاً عن عدو يخلف عدوه الزائل فاسعفته الخلفيات التاريخية الدفينة بأحقادها المزمنة وترسباتها المعتقة المقيمة وعنصريته المتأصلة في العثور على هذا العدو المفترض فكان الإسلام.
كما أن للولايات المتحدة بالذات، بصفتها تختصر راهن الغرب في مكانتها وقوتها وتأثيرها، حوافزها الخاصة، التي زكت هذا الاختيار، أو جعلته خياراً ليس من السهل على الأوباماوية الخروج عليه. من هذه الحوافز، تعثر مشروعها في العراق وترنّحه، وهزيمته المؤكدة المقتربة في أفغانستان، واتساع حروبها الكونية مع عدو لامرئي يطل لها برأسه من أربع جنبات الأرض، اطلقت عليه مصطلحاً لا جامعاً ولا مانعاً ولا متفق على تعريفه ويُختلف على تصنيفه يدعى الإرهاب، وكان من بركات تعثر مشاريعها هذه وفشلها وامتداد حروبها الكونية، أو اتساع مساحات مطاردتها لعدوها المشار إليه، أن خصتها تكاليف جبهاتها المفتوحة هذه بجبهة رابعة، ربما هي الأقسى والأشد وطأة وأثراً هي الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها جارةً معها، كما هو معروف، كافة اقتصاديات العالم… أوليس من اللافت أن كل ما هم الإدارة الأمريكية من حكاية قس فلوريدا وإزماعه حرق المصحف وربما ما كان داعٍ لتراجعه فيما بعد، هو الخطر الذي قد يتهدد جنودهم الغزاة إن أقدم القس المأفون على فعلته!!!
… أيها العرب وأيها المسلمون، استعدوا لقرن حروب استعمارية يضاف إلى تلك القرون القريبة البائدة التي كنتم قد عهدتموها لكنما يختلف عنها… استعدوا لقرن حروب استعمارية اشد شراسة، وأكثر تمويهاً، وأعلى تطوراً وأدهى تعقيداً!