همومه، وما قد ينسيه، ولو مؤقتاً، بعضاً من مشاكله التي إن نساها فلا تنساه، فوجد ضالته في تتبع غيثها الثر هذا… البعض يتسلى، والبعض يتشفى، والبعض أفزعه ما يغشاه من فضائحها، وهناك من يحاول جاهداً الحد من تداعيات ما قد يطاله منها، أو من يخشى أن لا يخطئه جديدها، وكثيرون بدو الحيارى وهم يبحثون عن إجابات لما أثارته هذه العاصفة الأمريكية من أسئلة…
السؤال الأول، من سربها وما هو الهدف الذي أراده من وراء هذا التسريب؟!
ولا يخفى على أحد وهو يطرح مثل هذا السؤال، أن السيد أسانج، صاحب “ويكيليكس” المطارد الآن من قبل الإنتربول، لا يمتلك مصباح علاء الدين، أو تتوفر لديه القدرة الخارقة ليسطو تكنولوجياً أو استخباراتياً على أسرار الإمبراطورية الدفينة فيعبث بوثائقها المليونية التي طفقت تغرق تسريباتها العالم… ما يعني، أن هناك من أصحابها من اتاحوها له وشاؤوا تسريبها عبره لا أكثر ولا أقل… الرئيس التركي، الذي أغضبت بلاده ما استهدفها منها كان ربما من أوائل من بادروا محاولين الإجابة على هذا السؤال، قال مشككاً في الأهداف الخفية المنشودة من وراء تسريبها، لقد “تم تمريرها في مصفاة”!!!
وهنا يأتي السؤال الثاني، ترى ما سر هذه الإنتقائية الواضحة في اختيار ما ضخ حتى الآن منها؟
حتى الآن، ربع مليون وثيقة نشرت، لكن ما يمكن وصفه بالأسرار الدفاعية فيها لا يزيد على الستة في المائة، والمصنف سرياً لا يزيد على الأربعة في المائة… أما “السري للغاية” فلا وجود له… والطريف أنها كانت متاحة لمليون وربع موظف ممن يملكون حق الوصول إليها… وجميعها، أو هذه المسربة تحديداً، تعالج الحقبة البوشية ولم تصل للأوبامية؟!
والسؤال الثالث الذي يستتبع السؤالين أعلاه، هو ولم، حتى الآن، أن الجهة الوحيدة التي لم تمسها هذه الوثائق هي إسرائيل… الإسرائيليون اعتبروها “مفيدة لإسرائيل”، سارعوا لتوظيفها، وقال قائلهم، “ليس هناك ما يحرج في هذه التسريبات، ولا شيء يمس أمننا”. بل إن نتنياهو وصف نشرها بأنه “يوم تاريخي”… وصحيفة “يدعوت أحرنوت” كتبت مبتهجة “العالم يفكر مثلنا”!!!
حتى الآن، يقول القانونيون، أن موقع “ويكيليكس” لم يخرق قانون السرية الأمريكية، وحيث لم يخالف قوانين بلاد مؤسسه اسانج التي هي استراليا، لم يزد على القيام بدوره كصحافة استقصائية، واجمالاً كل ما فعله لا يخرج على مفهوم حرية الرأي، أو المقولة التي لطالما أشهرها الأمريكان والغرب في سياق برامج عبثهم الدائم في خصوصيات الآخرين والتعرض لمعتقداتهم ومقدساتهم وقيمهم… ومع ذلك، ها هو طريد للعدالة يلاحقه الانتربول، والتهمة هي اغتصاب فتاتين سويديتين مرة واحدة، وها هي الولايات المتحدة، أوالغرب، تعلن الحرب على موقعه الكترونياً. هذا الغرب جميعه يقلق ويتضامن ويشجب ويدين… من هذا، رئيس الجمهورية الإيطالي اعتبر الأمر “سبتمبر ديبلوماسي”. مستشار رئيس الوزراء الكندي يطالب بإعدام هذا الإرهابي. ونائب جمهوري أمريكي يطالب بتحديد “ويكيليكس” “كمنظمة أجنبية إرهابية”… الأسترالي الجريء المختفي عن الأنظار في بريطانيا متهم بالتجسس من قبل إمبراطورية امتهنت سياسة الكذب وديبلوماسية النميمة وتتجسس نهاراً جهاراً على كل العالم، وفي عصرها انعدمت الفوارق، أو هي تضاءلت، بين العمل الديبلوماسي والتجسسي… تقول الوثائق أن وزيرة خارجيتها قد وجهت أمراً لديبلوماسييها بالتجسس على زملائهم في الأمم المتحدة، وطالبتهم بتزويدها بحمضهم النووي…
… والسؤال الرابع، وما أثر هذا السيل الويكيليكسي على العلاقات بين الدول التي تطالها وتحمله معها هذه الفضائح الأمريكية الموثقة؟!
للإجابة لابد لنا من العودة إلى سؤال سابق، وهو، وما الجديد فيها سوى أنها تكشف لنا فضائحها المكشوفة موثقة هذه المرة لا أكثر ولا أقل؟!
نعم، لا جديد فيها، إنما هي تنسجم مع سياق عام لامبراطورية الفضائح التي تطال كل من يتحالف أو يتعامل أو يُتبع نفسه لها ولا يخرج عنه، وحيث لا أسرار لها، وهي إن وجدت، تظل برسم كشفها المتعمد لتخدم سياساتها ومناوراتها، كما لا قيم ولا أعراف تضبط ديبلوماسيتها، التي بديلها الجلي معهود سياساتها المعروفة ببرائتها من تهمة الأخلاق والتي تمتاز بالجهل وتحكمها الغطرسة… تقول السفيرة المتنمرة، المندوبة الأمريكية الدائمة في الأمم المتحدة، سوزان رايس، معقبة على الحدث، أن “ديبلوماسيينا فعلوا ما يفعله الديبلوماسيون الآخرون في العالم كل يوم”!!!
وعودة إلى السؤال الأخير والإجابة عليه، أنه مع الوقت ستهدأ العاصفة، وستبلغ تداعياتها المثيرة حدودها… لن تتأثر بهبوبها كثيراً العلاقات الدولية التي تحكمها موازين القوى والمصالح… لكنما، وفي مطلق الأحوال، هي تنم عن تضاؤل هيبة دولة تفقد هيبتها باضطراد في عالم أضجرته وأرعبته فضائحها وحماقاتها، وهي دليل على خلل أمني لديها، وفقدان توازن إمبراطوري مستفحل، كما هو وشاية مبكرة بصراعات في بيتها تسم مرحلة ما قبل الانحدار… لا جديد في الوثائق الويكيليكسية سوى كشفها للمزيد من قبح الوجه الأمريكي، لكنما ما لم ينشر منها هو الأخطر وبالتالي هو الأهم!!!