الإندحار الأميركي... العراق فييتنام ثانية
يبدو أن عام 2011 كان حافلاً في مفاجآته، بدأ بتحولات
عربية أطاحت الجمود الذي كان مسيطراً على مناطق النفوذ الامبراطوري الأميركي، وهذا
العام سيدخل التاريخ المعاصر على أنه بداية التراجع العسكري والسياسي للتوسع
الامبراطوري الأميركي، الذي ظل منطلقاً عقدين كاملين من الزمن، والاندحار الأميركي
المذل من العراق.
لكن للمنهجية الأميركية الامبراطورية مواصفاتها المميزة
وطبيعتها الخاصة، فهي لا تتراجع بهدوء، كما أنها لا تتقدم بهدوء، فالعواصف
السياسية وأحياناً العسكرية لا بد أن تصاحب عملية التراجع، كما صاحبت عملية
التقدم.
بدأ الانسحاب الأميركي الكامل من العراق قبل نهاية عام
2011، وهو الموعد المقرر للانسحاب بعد مضي حوالي تسع سنوات كاملة من الاحتلال،
وفشلت محاولات أميركية بائسة لإجراء عملية تجميل ولو شكلي على هذا الانسحاب، من
خلال ترك ولو بضعة آلاف من الجنود، لحراسة الهيبة الأميركية في أثناء الانسحاب وما
بعده، ولذلك ارتأت الإدارة الأميركية أن تطلق في المنطقة المحيطة بالانسحاب من
العراق عواصف أمنية وسياسية تغطي بها الخزي الذي يلف عمليات جر أذيال الخيبة من
العراق.
الولايات المتحدة لن تكون بعد اليوم في واجهة الأحداث
بشكل مباشر، لكن قواعدها المنتشرة في المنطقة ونفوذها السياسي المتمثل بعدد من الأنظمة
المرتبطة ستتحمل نصيبها من الخيبة القادمة إضافة الى قاعدتها الاستراتيجية
"إسرائيل" لأن تحريك العواصف الأمنية والسياسية سيكون هذه المرة من وراء
الستار.
والذي حدث أن الاقتصاد الأميركي قد بدأ يترنّح ويواجه أزمات
متتالية إزاء أثقال الكلفة الاقتصادية لعمليات التوسع العسكري، التي كانت تتحرك
بشهوات السيطرة الامبراطورية من دون حساب الكلفة.
الانسحاب الأميركي من العراق تمّ في نهاية العام 2011
وبعد ثاني أطول الحروب في تاريخ الولايات المتحدة بعد حرب أفغانستان، وبدأ اقتراب خفض
الأنفاق في موازنة الدفاع الأميركية، والحضور الأميركي في المنطقة الى أفول وبعض
دول المنطقة الحليفة لأميركا، ستحاول عبثاً ملء الفراغ مثل تركيا، وسيبقى حضور
عسكري محدود لواشنطن في الخليج وتمول جزءًا من كلفته دول المنطقة كما تفعل قطر
حالياً، لكن المنطقة بالنسبة الى صناع القرار في واشنطن في المستقبل لن تحظى بمثل
الأهمية التي كانت عليه في العقود الأخيرة.
في الأيام الأخيرة قبل إنهاء معالم الاحتلال العسكري
الأميركي، كان هناك لقاء في واشنطن بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس
الوزراء العراقي نوري المالكي، وكانت خلاصة الاجتماع، أن المالكي طالب توفير
مساعدات عسكرية أميركية الى الجيش العراقي وحصول الشركات الأميركية على الحصة
الرئيسية من العقود النفطية ووعود بالحفاظ على استقلالية العراق في المعادلة الإقليمية
في ظل خلاف بين الجانبين حول سوريا وبعض ملفات المنطقة ومنها ما يتعلق بإيران التي
تشكل كابوساً حقيقياً للأميركي وأعوانه في المنطقة.
الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية انتوني
كوردسمان رأى أن على إدارة أوباما القيام بجهود للتأكد من أن "الرجل القوي لا
يبرز في المالكي أو شخصية أخرى، وعليها أن تتّخذ إجراءات لتصبح الولايات المتحدة
المستثمر الأبرز في قطاع النفط العراقي وفي سائر مجالات اقتصادها".
واعتبر كوردسمان، أن انسحاب القوات الأميركية من العراق
ليس نصراً في حرب بل كانت فشلاً استراتيجياً ملكفاً، ليس هناك نهاية لحرب العراق،
حتى لو وصل مرحلة حيث يمكنه ضمان استقراره الداخلي، ليست هناك خريطة لكيف تنوي
الولايات المتحدة فرض هيكلية استراتيجية جديدة في المنطقة، هذه هي الاختبارات
الحقيقية لقدرة الولايات المتحدة على تحويل الحرب الى أي شكل من النجاح في المستقبل،
ولم تتم تلبية أي من تلك الاختبارات حتى الآن".
لقد انسحبت القوات الأميركية من العراق وانتهى الاحتلال،
بحلول نهاية العام 2011 بالتزامن مع قرار مشابه للحلف الأطلسي، ودخلت العلاقات الأميركية
– العراقية في مرحلة من عدم اليقين، في ظل قلق أميركي من تغيير في معادلات المنطقة
وإعادة تشكيل خريطة المنطقة لمصلحة ودول المنطقة وخاصة تلك التي ساهمت في تعجيل
الانسحاب الأميركي، وجعلت بقاء الاحتلال أمراً مستحيلاً في ظل ارتفاع كلفة
الاحتلال في خسائره الباهظة وعدد قتلاه وانهيار معنويات جنوده، والغزو الأميركي
لأرض العراق لم يكن نزهة أبداً، لقد كان كارثة بكل المقاييس ردها البعض الى عدم
وجود خطط لما بعد الاحتلال وفي حقيقة الأمر كان للمقاومة العراقية دورها الكبير في
جعل التواجد الأميركي في العراق جحيماً لا يطاق.
سيناريوهات ما بعد الانسحاب الأميركي
تختلف الآراء حول التداعيات المحتملة لهذا الانسحاب في
ظل التطورات والأحداث العاصفة في عالمنا العربي والجدل أيضاً في أوساط الساسة
والمعلقين في واشنطن، وفي حين يرى البعض أن الانسحاب سيقدم العراق على طبق من ذهب
لإيران وسوريا حيث سيمتد نفوذ البلدين في العراق، وبالتالي فإن حلفاء واشنطن في
المنطقة المفترضين يشعرون بالقلق من قطر والبحرين والسعودية وحتى
"إسرائيل" لأن منظومة المقاومة في أمتنا العربية ممثلة بإيران وسوريا
والمقاومة في لبنان وفلسطين ستكون هي الرابح الأكبر وهي ستتمكن من تحقيق الاستقرار
وملء الفراغ بعد رحيل الأميركي، وهي مازالت بكامل قوتها المؤطرة بإرادة شعبها
ووعيه الذي أسقط كل المؤامرات والفتن والحرائق التي أشعلت في المنطقة لتأمين
الانسحاب الأميركي تحت هذا الغطاء.
لن تنفع محاولات التهويل الأميركي وأدواته وأقلامه من
تسويق رؤيتها لعراق ما بعد الانسحاب الأميركي وهي تتحدث عن تفكك العراق بدون وجود
الولايات المتحدة كقوة استقرار، وأن العراق ضعيف وقابل للسقوط وهي نقطة كان قد شدد
عليها وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس بأن عراقاً بلا أميركيين سوف يواجه
تحديات كثيرة.
العراقيون يسجلون في ذاكرتهم جيداً أعوام الاحتلال بمشاهد
لا تنسى من الفظائع التي ارتكبت والدماء التي سالت، لم ينسوا ما عاشوه من قتل
وتهجير وكيف تحوّلت نقاط التفتيش المكلفة حمايتهم الى آلة للاعتقال والقتل
الطائفي، إن عودة التهويل الأميركي يصب في اتجاه زعزعة الاستقرار ومحاولة إسقاط كابوس
الترويع وهو أن الانسحاب الأميركي يعني العودة الى الحرب الطائفية.
إن هذا الخطر المزعوم ما هو إلا "سلعة" إعلامية
غربية – أميركية تحديداً، ويرى عدداً من المراقبين العراقيين أن أميركا سيدة اللعب
على الوتر الطائفي منذ الغزو.
المشهد العراقي ما بعد الانسحاب الأميركي، دفع الكثير من
مراقبي الشأن العراقي كي يتحدثوا عن مشهد آخر مختلف في المنطقة بأسرها، أن إخلاء
الساحة العراقية تماماً من الوجود العسكري الأميركي، هو وضع لا يميل لمصلحة المحور
الأميركي في المنطقة ويفرض معادلات جديدة وحسابات جديدة في وجه واشنطن التي بشرت
منذ غزوها العراق عام 2003 بصورة مشهد جديد في العراق ومحيطها، وقد طلبت واشنطن
يومها من كل العواصم المحيطة بالعراق انتهاز الفرصة، وبالتالي الانصياع لموجبات
اللحظة الأميركية والتماهي معها في أسرع وقت ممكن لأن بعدها لن يكون كما قبلها،
كما صرح بذلك وزير الخارجية الأميركية آنذاك كولن باول غداة الغزو.
لقد حاول البعض في العراق بذل مساعٍ رامية الى عقد مؤتمر
وطني عام بغية تقديم غطاء شامل لمسألة التمديد لبقاء قوة خبراء عسكريين أميركيين
في العراق ولكنها الفكرة كانت دونها اعتراضات قوية، إذ أن الأوضاع والمعادلات المغايرة
للتوجهات الأميركية فرضت نفسها في الساحة العراقية رغم انتشار ما يفوق الـ 100 ألف
جندي أميركي، ورغم ذلك أضحى الوجود الأميركي ضعيفاً أمام الوقائع الجديدة المتمثلة
بوجود المقاومة وحضورها ومعادلاتها وحساباتها.
يقول قائد القوات الأميركية في المنطقة الوسطى بالعراق
الجنرال بيرنارد شامبو إن الجيش الأميركي غادر العراق تاركاً وراءه تحديات كثيرة
أمام العراقيين والأوضاع في العراق لا تزال مثيرة للقلق وهو كبلد لا يزال يعتبر
مكاناً خطيراً".
وثمة من يرى أن الولايات المتحدة تسعى الى حفظ ماء الوجه
بعد أن وجدت أن "العراق الأميركي" الذي سعت الى تحويله نموذجاً رائداً
في المنطقة تحول الى منطقة غير خاضعة للنفوذ الأميركي وفق تأكيدات كبار قادتها الأمنيين
والسياسيين، فقد طالب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي
بزيادة الوجود العسكري الأميركي في الكويت للتصدي للنفوذ الإيراني المتزايد في
العراق ومنطقة الخليج.
والرغبة الأميركية في إبقاء عدد من القوات في منطقة
قريبة من العراق ضماناً و"لجعل إيران في وضع غير مريح"، يرد عليها رأي أميركي
أيضاً، فالسيناتور ليندسي غراهام يرى أن "الإيرانيين لا يخشوننا على الإطلاق".
أميركا اندحرت من العراق وهي عملياً ستخرج من الشرق الأوسط،
والحديث يكثر في أروقة القرار الأميركية عن تراجع غير مسبوق لدور الولايات المتحدة
في المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، ويعزو المسؤولون الأميركيون هذا التراجع الى
تغيير استراتيجي في السياسة الأميركية الخارجية والتركيز على مناطق أخرى من
العالم.
من هنا يمكن القول، العراق اليوم يعانق فجر الحرية
ومعادلات جديدة في المنطقة.
أدهم محمود