مؤتمر هرتسليا "في عين العاصفة" والأزمات الدولية الكيان الصهيوني الغاصب عبء استراتيجي على حلفائه

مؤتمر هرتسليا "في عين العاصفة" والأزمات الدولية
الكيان الصهيوني الغاصب عبء استراتيجي على حلفائه

عقد مؤتمر هرتسليا في الفترة ما بين 30 كانون الثاني والثاني من شباط 2012 تحت عنوان "ميزان المناعة والأمن القومي في "إسرائيل"، وهو المؤتمر الثاني عشر، وذلك في المركز المتعدد المجالات في منطقة هرتسيليا، وهي مدينة في كيان العدو الغاصب ويصل عدد سكانها نحو 84 ألف نسمة، وتقع على الساحل الأوسط لفلسطين المحتلة، وهي جزء من منطقة تل أبيب، وسميت على اسم تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة، تبلغ مساحة هرتسيليا حوالي 26 كلم2.
يعتبر مؤتمر هرتسيليا من أهم المؤتمرات في كيان العدو الغاصب، وهو مؤتمر ينظمه المركز المتعدد التخصصات في هرتسيليا، والذي يعني بالشؤون الاستراتيجية الخاصة بالكيان والمنطقة والعالم ويشارك فيه كل من رئيس كيان العدو، ورئيس وزرائه، والقائد الأعلى لجيش حرب العدو والمرشحين للمناصب السياسية.
ومنذ عام 2000 يعقد المؤتمر سنوياً، وهو من أهم التجمعات اليهودية التي تتدارس ميزان الأمن القومي لدى العدو وصناعة قراره، ويهدف بصورة أساسية للوصول الى استراتيجية متكاملة وشاملة للأمن القومي ومناقشة قضايا كيان العدو الداخلية وعلاقاته الإقليمية والدولية وبخاصة مع الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية وصولاً الى وضع السياسات العسكرية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال الأطر الاستراتيجية التي تجري فيها المناقشات والمقترحات التي يقدمها المؤتمر لحكومة العدو والمنظمات اليهودية داخل الكيان وخارجه، ويشارك فيه خبراء ووزراء وناشطون أجانب وبعض من عرب التطبيع.
إن سلسلة المؤتمرات هذه، تأتي في إطار سعي العدو الغاصب لإحكام السيطرة على الأرض والإنسان والثروة في فلسطين، ولاحقاً للسيطرة على الأمة وإقامة امبراطورية "إسرائيل الكبرى" المزعومة، ويهتم هذا المؤتمر بالدرجة الأولى بما يسميه العدو بالمسألة الديمغرافية وما يتعلق بمسائل أخرى مثل الهوية والتعليم والاستراتيجية العسكرية والأمن والبحث العلمي والاقتصاد، ذلك أن المسألة الديمغرافية هي المسألة التي ينشغل فيه العقل الصهيوني، بعد أن استنتج باحثو هذا الكيان أن أرض فلسطين التاريخية ستصبح ذات غالبية فلسطينية بعد حوالي عقدين من الزمن.
أجمع المتحدثون في المؤتمر والمحاضرات التي أعقبت الافتتاح أن الكيان يواجه أوضاعاً صعبة، واعتبر رئيس المؤتمر داني روتشيلد: "إن قوة الولايات المتحدة في حالة تراجع في المنطقة مقابل صعود قوى إقليمية معادية لـ "إسرائيل" التي تجد نفسها معزولة استراتيجياً ولا تجد من تعتمد عليه في مواجهة الأخطار التي تطوقها، وأن "إسرائيل" باتت عبئاً استراتيجياً على الولايات المتحدة، وتتصاعد الانتقادات ضد "إسرائيل" في العالم، معتبراً أن هذا يعني أن "إسرائيل" منيت بفشل دبلوماسي".
وقال رئيس كيان العدو شمعون بيريز في محاضرته في المؤتمر: إن الطريق الأفضل لـ "إسرائيل" ألا تتعامى عن المخاطر والفرص وأن الخيار الوحيد أمامها يكون بتسوية الصراع مع الفلسطينيين، وقال: "أعرف رؤساء السلطة الفلسطينية منذ عقود، والرئيسان محمود عباس وسلام فياض هما شريكان حقيقيان للسلام ويرغبان بإقفال الصراع، وتقوم قوات الأمن الفلسطينية بالتعاون معها بفرض الأمن والنظام، ليتمتع الجانبان بسنوات من الهدوء وانعدام الإرهاب نسبياً".

تغيير الواقع - ما هي تقديرات هرتسيليا؟
خلال العام 2011 وقعت في العالم سلسلة أحداث دراماتيكية، خلقت نقاط تحول استراتيجية غيّرت الواقع خصوصاً في المحيط الاستراتيجي لـ "إسرائيل" وهناك ثلاث سيرورات تأسيسية أساسية، تقيم علاقة تبادليه مركبة في ما بينها وتبلور الواقع الاستراتيجي لـ "إسرائيل"، هناك الأزمة الاقتصادية العالمية، والهزة السياسية – الاجتماعية في الشرق الأوسط، والسيرورة العالمية للمجد المدني.
وبانتظار حدث أزماتي متعدد المنظومات، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية قد تتعمق في المدى القريب، والأزمة الاقتصادية تعجل رؤية التغيير في موازين القوى الدولية وتصوغ سياسات القوى العظمى في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة تحرف انتباهها المحدود أيضاً بسبب سنة الانتخابات عن الشرق الأوسط، نحو آسيا، فيما أوروبا تغرق كلها في جهد محموم لمنع انهيار اقتصادي وتبدي عجزاً في الحلبة الدولية والإقليمية، والقوى العظمى الجديدة في آسيا بعيدة عن التدخل السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط وبسبب الأوضاع الجديدة في الشرق الأوسط، فإن التقديرات الإسرائيلية بشأن المخاطر الكامنة فيها تزداد تحققا، وغياب القوى العظمى التقليدية، تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، وتضع الهزة السياسية في الشرق الأوسط أمام "إسرائيل" تحديات أمنية وسياسية مركبة فيما هي معزولة من الناحية الاستراتيجية.
استنتاجات هرتسيليا، بالنسبة لـ "إسرائيل" تقول: من الصعب المبالغة في أهمية منظومة العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة في هذه الآونة، فالهزة في الشرق الأوسط، كان يفترض أن تبرر القيمة الاستراتيجية لـ "إسرائيل" بالنسبة للولايات المتحدة والغرب، لكنها لم تفعل، ولا يمكن التهرب من الانطباع بأن الولايات المتحدة ترى في "إسرائيل" بخطواتها المستقبلية خطراً استراتيجياً أكثر مما تراه حليفاً استراتيجياً، "فالصورة التي أعطيت لحكومة "إسرائيل" الحالية في أوروبا وفي الولايات المتحدة بالغة القسوة والانتقادات ضدها" لكن من ناحية "اسرائيل" هذا إخفاق دبلوماسي مدوٍّ، وإن غياب التقدم في العملية السياسية أضر بالمكانة الدولية وعرض للخطر الاستقرار الأمني الذي تحقق على الأرض، لكن حان الوقت لتحريك خطوات حقيقية ويمكن للأردن أن يكون شريكاً هاماً في هذا الجهد.
وثبت أيضاً بالنسبة لـ "إسرائيل" أن التغييرات المحتملة في المنطقة ليس دوماً متوقعة وأن وتيرة التغيير قد تكون أسرع بما لا يقاس من قدرة "إسرائيل" على الاستعداد في مواجهة الوضع المتغير، ولهذا الفهم أثر مباشر على سلسلة الخطوات المفترض بـ "إسرائيل" اتخاذها وبناء القوة العسكرية.
وفي الوقت الذي تغير فيه هذه التغييرات قواعد اللعب الأساسية التي عملت وفقها "اسرائيل" في الحلبة العالمية وفي المجال الإقليمي، لا ينبغي نسيان أن الأمن القومي يبدأ من الداخل، والتحديات في الحلبة العالمية والإقليمية الرابضة أمام "اسرائيل" تشدد الحاجة لمواجهة القضايا الحاسمة التي على جدول الأعمال الداخل الإسرائيلي، وتقدير ميزان منعة "اسرائيل" يظهر صورة بائسة لفجوات آخذة في التوسع تتعلق ليس فقط بالفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما بشروخ وخلافات أساسية على صورة دولة "إسرائيل" وسلطة القانون فيها، إن هذه الشروخ تهدد أسس الصهيونية وتضر بالمنعة القومية.
يقول جنرال الاحتياط داني روتشيلد رئيس مؤتمر هرتسيليا: "حين تهب العواصف فإن الميل الطبيعي هو الانغلاق واتقاء شرور العاصفة، ومع ذلك فإنه في موضوعنا من المشكوك فيه أن يحتمل البيت أضرار المناخ، في الواقع المتعدد الأزمات التي تتحدى "اسرائيل" ويمكن للانغلاق السلبي أن يعرض للخطر مستقبل المشروع الصهيوني".
وكذلك في الواقع الشرق أوسطي البادي، يرى روتشيلد: "أن نظرية شعب لوحده يعيش، يمكنها أن تبدو جذابة لـ "إسرائيل"، لكنها استراتيجية ليست قادرة على البقاء، في هذا الوقت تحتاج "اسرائيل" الى رؤية استراتيجية مبادرة وواضحة تستند الى تقديرات ومواقف واقعية، ومن هنا فإن تقدير مؤتمر هرتسيليا، معد لرسم حدود وتحليل معاني أحداث العام الفائت في سياقها الواسع، كمشيرة للميول أو التطورات المحتملة في المستقبل القريب والمتوسط، كذلك يشمل التقدير توصيات سياسية لـ "اسرائيل".

الأزمة الاقتصادية العالمية وأبعادها الاستراتيجية

وفي تقديرات مؤتمر هرتسيليا أن الأزمة الاقتصادية العالمية الجارية منذ خمس سنوات لم تصل الى نهايتها وإنما قد تتعمق، والاقتصاد العالمي يعيش مرحلة ترقب لحدث أزماتي متعدد المنظومات، على شاكلة انهيار السوق الأميركي في العام 2008، ويمكن ملاحظة سيناريوهات للحدث، بينها أزمة ديون سيادية في أوروبا، وعجز دولة أوروبية من سداد ديونها يمكن أن يدفع كرة الثلج نحو منحدر شامل يقود الاقتصاد العالمي الى ركود عميق، وسيكون هناك حدث أزماتي غير مسبوق، أي أن الأسوأ مايزال أمامنا.
إن للأزمة العالمية آثاراً بعيدة المدى تتجاوز الحقل الاقتصادي والأزمة تسرع نظرة التغيير في ميزان القوى العالمي وتصوغ نظرة القوة العظمى الاستراتيجية، والأمر يبرز على وجه الخصوص لدى المتضررين الأساسيين من الأزمة، الولايات المتحدة وأوروبا، وهذه التغييرات أثرت على تطور الأحداث، وعلى السيرورات في الشرق الأوسط وعلى مكانة اللاعبين الإقليميين وبينهم "اسرائيل"، ولم يبدأ التراجع في القوة النسبية للولايات المتحدة مع الأزمة الاقتصادية، لكن الأزمة والاعتماد الأميركي على الفوائض الصينية لتمويل الدين العام المتضخم قاد الى استيعاب التغيير في ميزان القوى، وهذا ما ظهر في التفضيل البائن من جانب إدارة أوباما لاستثمار جهد كبير في التحاور مع الخصوم، أيضاً على حساب حلفاء تقليديين، وكان هدف الإدارة الأميركية الحفاظ على الوضع الاستراتيجي والاستقرار النسبي في البؤر الإقليمية بأقل ثمن ممكن.
وبعد أن زادت الصين نفوذها ومحاولة إملاء خطوات في آسيا، هذه قادت الإدارة الأميركية الحالية الى الاستنتاج بأن المصالح الأميركية الحيوية موضوعة فعلاً على المحك في هذه الحلبة، هذا العامل بالإضافة الى سنة الانتخابات الرئاسية، جعل الإدارة الأميركية تصرف الانتباه الاستراتيجي والسياسي المحدود من الشرق الأوسط الى الحلبة الآسيوية وحوض المحيط الهادئ، وفي إطار هذه الخطوة ستوجه موارد اقتصادية عسكرية وسياسية نحو آسيا، وبالتالي فإن الإصغاء السياسي الأميركي لمناطق أخرى في العالم بينها أوروبا والشرق الأوسط سيكون محدود أو بالغ المحدودية.
على خلفية هذه التغييرات فإن الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها تصوغ بشكل كبيرة الهزة السياسية التي أحاقت بالشرق الاوسط، وتاريخياً حددت القوى العظمى في السياسة العالمية قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وغياب تلك القوى التقليدية عن الشرق الأوسط يفاقم انعدام الاستقرار السياسي، ونحن بذلك أمام شرق أوسط جديد.

هرتسيليا والسياسة الإسرائيلية

تتخذ القرارات في الكيان الصهيوني الغاصب بناء على معطيات ومعلومات، وبناء على سلسلة من الثوابت على المستويات السياسية والأمنية العسكرية وكذلك الاقتصادية، ولذلك يمكن ملاحظة ملامح ومؤشرات مستقبلية شبه مؤكدة لسياسة هذا الكيان، ومن هنا يمكن معرفة كيف يوجه الصهاينة سياساتهم تجاه العالم العربي ومنه ملف التطبيع وحقيقة الأهداف من وراء هذا التطبيع؟
إن مستقبل المنطقة العربية والشرق أوسطية، تتعلق بملف التطبيع، لأنه المفتاح لبقية الملفات الأخرى في الاستراتيجية الإسرائيلية.
إن مؤتمرات هرتسيليا السياسية والأمنية منذ بداية انعقادها سنوياً من العام 2000 ولا سيما المؤتمر الخامس الذي عقد في العام 2004، والزيارة التي قام بها وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم الى مصر في 12 نيسان 2005، ومن خلال المواقف والرؤى التي طرحتها قيادات الكيان والحركة الصهيونية العالمية في هذه المناسبات جميعها يتضح ملامح المخطط المبرمج الذي ينوي الصهاينة تنفيذه في شأن تفعيل حراك التطبيع، ويتضح وجود أنواع من التقسيم من جانب "اسرائيل" للدول العربية، والمجموعة الأولى منها هي تلك الدول التي لا يرغب الكيان في التعامل معها في الوقت الراهن على الصورة الحالية لنظمها والسياسات التي تتبناها هذه النظم وعلى رأسها "سوريا" مع علاقتها الراهنة مع إيران التي تعتبر المهدد الأول للكيان الصهيوني، الى جانب سوريا وعلاقاتها السياسية بقوى المقاومة في المنطقة والدعم الذي تقدمه سوريا لـ "حزب الله"، في شتى المجالات اللوجستية والسياسية والأمنية، ولذلك ومنذ تلك الفترة بشكل خاص وطبقاً لشارون رئيس الحكومة آنذاك ووزيري دفاعه "شاؤول موفاز" وخارجيته "سيلفان شالوم" في مؤتمر هرتسيليا الخامس عام 2004، فإن أهم أولويات السياسة الخارجية الإسرائيلية خلال المرحلة المقبلة هي تشديد الضغوط على دمشق وطهران باعتبار أن الأخيرتين تمثلان تحالفاً شديد الخطورة على الأمن القومي الإسرائيلي.
أما المجموعة الثانية من الدول العربية، فهي تلك الدول التي يرغب الكيان الغاصب في توطيد علاقاته معها، مع أهمية ذلك بالنسبة للصهاينة أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعلى رأٍس هذه الدول، مصر والمغرب والأردن وقطر، حيث أن كلا منهما تمثل مفتاحاً هاماً للكيان في منطقة فرعية أو مهمة معينة في العالم العربي، فبالنسبة لمصر تمثل "الكويز" وعملية التنسيق الأمني على الحدود، والهدف الأهم مع تشجيع دول عربية أخرى للتطبيع مع "إسرائيل" وهو ذات الدور المعول على كل من قطر في منطقة الخليج، والمغرب في شمال أفريقيا، أما الأردن فتعتبر ركيزة أساسية للتطبيع ومؤشرات ذلك واضحة من الاتفاقيات التي وقعت مع الأردن ومصر.
وفي كلمة شارون في مؤتمر هرتسيليا الأمني الخامس لدينا قنوات اتصال مفتوحة وحوار متواصل مع الحكومة المصرية، ونحن نتوقع تعاوناً وثيقاً من جانب مصر لمنع تهريب السلاح من سيناء الى غزة، واتخذت قراراً نحو تدفئة العلاقات مع "اسرائيل" ومصر ستجر وراءها في نهاية المطاف سائر الدول العربية، ونحن نعمل ليس فقط من أجل تشجيع المعتدلين، بل نبادر الى اتخاذ خطوات من أجل عزل المتطرفين (سوريا وإيران مستمرتان في قيادة سياسية تزعزع الاستقرار في المنطقة).
من هنا فإن حالة عدم الاستقرار في المنطقة والهجمة الأميركية – الإسرائيلية على سوريا وإيران و"حزب الله" هي جزء من مخطط أشمل ليس بعيداً عن أجندات الصهاينة، فالمخططات جاهزة ومعدة سلفاً، وما نراه اليوم هو التنفيذ، وأمن الكيان الصهيوني الغاصب في أولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة.

محمود صالح