ليبيا تتقسّم وميثاق برقة البداية

ليبيا تتقسّم وميثاق برقة البداية

في تطور يزيد من الاستقطاب الحاد الذي يشهده المجتمع الليبي، يبدو أن البلاد دخلت مرحلة جديدة مفصلية، بعد إعلان قبائل شرق ليبيا تشكيل إقليم فدرالي يستمد شرعيته كما أُعلِن من الدستور الذي أقرّ في عهد الملك إدريس السنوسي عام 1951، هذا الحدث الجديد يضاف الى سلسلة الفوضى التي اجتاحت ليبيا مع دخول قوات حلف الناتو التي أشاعت الخراب والدمار في كل مكان هناك تحت حجج وذرائع واهية وبتغطية من أنظمة "عربية" تآمرت على الأمن القومي العربي وهيأت كل السبل التي قادت الى احتلال ليبيا والسيطرة على ثرواتها النفطية وبهذه الخطوة، تكون الظروف التي خلقها الاحتلال الأجنبي قد هيأت الأرضية الى جنوح البلاد نحو سيناريوهات التقسيم والانفصال والتناقض وصولاً الى الصراع.
وفي مؤتمر عقد في 7 آذار 2012، تحت شعار مضلل "ليبيا دولة موحدة"، أعلن عدد من الناشطين السياسيين والزعماء القبليين تشكيل المجلس التأسيسي لإقليم برقة برئاسة أحمد الزبير السنوسي، وهو من بين الأعضاء المؤسسين لـ "المجلس الوطني الانتقالي"، الذي يحكم البلاد في ظل الحماية من الدول الغربية الطامعة بالثروات الليبية، والمؤتمر المذكور أصدر بياناً تحت عنوان "ميثاق برقة للعيش المشترك" طالبوا فيه بالعودة الى الدستور المالكي، رافضين إعلان الدستور الصادر عن "المجلس الوطني الانتقالي"، ومشددين على أن "نظام الاتحاد الفيدرالي يعد خياراً لإقليم برقة في إطار دولة ليبية مدنية ودستورية تكون شريعتها الإسلام".

إقليم برقة كيان انفصالي

لقد أعلن "مجلس برقة" أن المنظمة الممتدة من مدينة بني جواد، قرب خليج سرت غرباً، وحتى أمساعد نقطة الحدود الليبية المصرية (شرق ليبيا) منظمة حكم ذاتي ضمن نظام فيدرالي ورئيس المجلس المذكور أحمد السنوسي، نفى أن يكون الهدف من إنشاء الإقليم هو تقسيم البلاد، وادعى، أن سبب الإعلان عن الإقليم هو التهميش وضعف أداء المجلس الانتقالي واصفاً رئيسه مصطفى عبد الجليل بالديكتاتور.
في هذا الوقت، أعلنت 120 منظمة ومؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني في مدينة بنغازي رفضها لإعلان برقة إقليماً فيدرالياً لأن تطبيق النظام الفدرالي في ليبيا سيكون خطوة في اتجاه التمزيق الكامل للتراب الوطني الليبي كما حدث في السودان، واتسعت دائرة الرفض للمشروع التقسيمي المذكور وخرجت أصوات تنادي وتشير بقوة الى أطراف خارجية وراء المطالب لتقسيم ليبيا.
ليبيا تعيش هذه الأيام حالة من الفوضى والميليشيات المسلحة هناك لا تحترم المعتقدات وتدوس على حقوق الإنسان بدون أي عقاب، وهناك من يساعد في إذكاء بذور التفرقة والفتنة بين الليبيين، وهناك تجاوزات خطيرة وجرائم حرب وفوضى ضاربة، وهناك معتقلين يحتجزون بشكل غير قانوني ويتعرضون للتعذيب حتى الموت.
ويؤكد المراقبون وتقول الوقائع، إن المجلس الانتقالي الليبي جاء به الاحتلال الأجنبي وهذا بدوره أعلن عن تشكيل مجلس وزراء من التكنوقراط في تشرين الثاني الماضي، لكن هذا المجلس بقي فاقداً للصلاحيات إذا تم تجويفه من السلطة.
ورئيس الوزراء عبد الرحيم الكيب نفسه، أكد أنه لا يملك أي سلطة وقال: "بدلاً من معالجة المشاكل، بقي "المجلس الانتقالي" يتفرج على المشاكل وهي تتراكم من دون حلول، وبالرغم من الإعلان عن قانون انتخابي منذ حزيران الماضي، إلا أنه لا يوجد نظام قضائي يفرض تطبيقه.
وعائدات النفط الليبي لا يُعرف الى أين تذهب حيث تصدر ليبيا اليوم أكثر من مليون برميل تقريبا، والمسؤولون في آلية التمويل الانتقالية لا يسمح لهم بعرض الحسابات؟ وعملية إعادة الإعمار غير موجودة وانقطاع التيار الكهربائي بات أزمة تجتاح البلاد.
في وضع ليبيا من المؤكد أن الفيدرالية هي بداية التقسيم، والتقسيم يؤدي حتماً الى الخلاف، وتضارب المصالح ويفتح الباب للنزاع على أشياء كثيرة منها، مصادر الثروات، وهذا ما يريده المتربصون والأعداء وأصحاب الرؤى الضيقة، ومعظم أبناء ليبيا يؤكدون أن دعاة الفيدرالية انفصاليون، وهؤلاء يساومون على مكاسب، بينما الأجنبي يسيطر على البلاد وينهب ثرواتها، و"المجلس الوطني الانتقالي" الذي يدير ليبيا، ليس قادراً على السيطرة على معظم المطارات والموانئ التي تديرها ميليشيات مسلحة، "وهو يدعو الى الحوار كما يقول عبد الجليل ويلوح باستخدام القوة من أجل وحدة البلاد" ولكنه نسي أو تناسى أن يقول: "إن ما حصل هو ما يريده الاحتلال الأجنبي".

من المستفيد من التقسيم؟

إن انفصال شرق ليبيا من خلال حكم ذاتي أو ولاية مستقلة ضمن فيدرالية، من شأنه أن يشجع بقية المناطق الى مزيد من الانفصال، وهذا بدوره سيؤدي الى زعزعة "الحكومة المركزية" المفترضة، أما شركات النفط ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع كيان سياسي جديد، وربما يحقق لها هذا الوضع مزايا أفضل مثل فرض شروطها وتحكمها بعملية الاستثمار والأسعار.
ومن المعروف أن معظم احتياجات ليبيا النفطية موجودة في برقة وتتخذ شركات النفط المملوكة للدولة مقراً رئيسياً لها في بنغازي.
ويرى دعاة الانفصال ومنظريهم في دول الغرب الاستعماري أن "الاتجاه العالمي في الوقت الحالي، وخصوصاً بعد المؤتمرات التي عقدتها الأمم المتحدة يتمحور حول دعوة كافة الدول الى إصلاح نظمها السياسية من خلال الاتجاه نحو العدالة المتساوية بين الأقاليم عبر اللامركزية السياسية، وإلا فإنها ستكون عرضة لأزمات عديدة".
ومن هنا يمكن القول، إن أي مغامرة من هذا القبيل في ليبيا من شأنها أن تقود الى حرب أهلية وتقسيم للبلاد، خاصة وأن وسائل الإعلام الغربية تروج لعملية التقسيم وتقاريرها تتحدث على خطة لتقسيم ليبيا الى خمسة أقاليم هي برقة وطرابلس ومصراتة وجبل نفوسة وفزان، وتشير تقارير مركز "ستراتفور" الأميركي الى أربع ظواهر مرتبطة بالحديث عن الفدرالية وهي: "الانتخابات المحلية في مدينة مصراتة (غرب) والتي أفضت الى استبدال المجلس المحلي المعين من قبل "المجلس الوطني الانتقالي" والاشتباكات التي وقعت في بلدة بني وليد بين مسلحين موالين للمجلس الانتقالي وآخرين من مناصري القذافي، والتي انتهت بطرد مقاتلي المجلس الانتقالي من البلدة، والاشتباكات القبلية في منطقة الكفرة (جنوب شرق)، وهناك مجموعة من القضايا المثيرة للقلق، مثل حالة الاستقطاب الحادة داخل المجتمع الليبي وانتشار السلاح في أيدي الميليشيات.
إن ما يسمى "فيدرالية برقة" في الشرق الليبي هي مرادفة للتقسيم، وهي من إنتاج "الثورات العربية" المشبوهة والتي أطلقت العنان لدعاة التقسيم والشرذمة والفوضى بكل ما تعنيه، روج لها الاحتلال الأميركي للعراق، ومنظره "جو بايدن"، وأصبحت الفكرة دستوراً برعاية أميركية مباشرة، وتقسيم البلدان يعني أنها لم تعد تملك مقومات الحياة بمفهوم حياة الدولة المستقلة القادرة على تأمين متطلبات شعبها وسيادتها واستقلالها، فإذا نجحت الخطة يكون المشهد في المنطقة قد انقلب الى دويلات ضعيفة متناحرة وتابعة.
في ليبيا تدخّل حلف الأطلسي بذرائع كاذبة، ادعى بأنه جاء ليحمي الشعب الليبي، وفقاً لما طالبت جامعة الأعراب، و"حررها" حسب زعمهم، ثم جاء التقسيم والذي سيؤدي الى تفتيت الدولة ذات الثروات والتي كان بإمكان العرب الاستفادة منها لنهضة الأمة كلها، لكنها مع التقسيم ستذهب الثروات الى الدول الاستعمارية الناهبة، والكيانات الصغيرة ستعاني الضعف وستطلب الحماية من الغرب، هل هذا ما يريده الأعراب وجامعتهم التي يديرها برنار هنري ليفي الصهيوني؟
ويبقى الأمل قائماً فقط في أولئك الذين يؤمنون بخيار المقاومة والممانعة في أمتنا، هؤلاء فقط هم ذخر أمتنا وعلى أقدامهم تتحطم كل المؤامرات والمخططات المعادية وعلى أيديهم سيتحقق النصر المؤزر مهما غلت التضحيات.

نبيل مرعي