السودان يواجه "إسرائيل ثانية" في جنوبه
الصراع على النفط والمياه بدأ في هجليج
الزيارة التي قام بها سلفاكير، رئيس جمهورية جنوب السودان للكيان الصهيوني "إسرائيل" في كانون الثاني الماضي، وهي أول زيارة له بعد تقسيم السودان بفصل جنوبه عن شماله، لم تكن مجرد نزهة عابرة، أو مفاجأة في غير توقيتها، لقد اختارها بوعي وطلب مساعدتها، فهي بالنسبة إليه "النموذج والمثال" ولهذا وعد نفسه بانه سيتعاون معها من أجل توثيق العلاقات الى أبعد الحدود.
جنوب السودان الدولة رقم 193 في الأمم المتحدة أصبحت دولة مستقلة عن السودان الأم في 9 تموز الماضي، هذه الدولة الانفصالية وجدت من الدعم الكثير، بالمال والسلاح، وهي التي أريد لها أن تكون رأس حربة في جسد السودان الكبير وعامل استنزاف دائم لقدراته البشرية والمادية وتهديداً مباشراً للأمن القومي العربي، وسلفاكير هذا أدار الظهر لكل الدول العربية التي ساعدته ولكنه ظل وفياً لـ "إسرائيل" التي تغلغلت في أفريقيا بضوء أخضر أميركي، وعملت على تفكيك السودان لأسباب وطموحات استراتيجية، والجهود الإسرائيلية تكثفت في الآونة الأخيرة بعد "ثورات" ما سمي بالربيع العربي في تونس ومصر.
وهنا يمكن القول، بأن الفرصة باتت سانحة تماماً لتحقيق بعض طموحات الكيان الصهيوني في تلك المنطقة الهامة من أفريقيا، والتسلل الى منابع النيل مستمر ومتصاعد ومدعوم بمشاريع لبناء السدود، لتحويل مياه النيل في أثيوبيا وأوغندا، وفي جنوب السودان والهدف تقليص حصة مصر والسودان من المياه.
دولة جنوب السودان، تحولت الى أداة وتابع للكيان الصهيوني ودوائر دول الغرب الاستعماري، وأصبحت رأس حربة جديدة وكعامل إثارة للمشاكل والفتن والحروب في تلك المنطقة الهامة من أفريقيا، ونقطة ارتكاز وانطلاق لنهب ثروات الشعوب الأفريقية والسودان ومنع تكامل مصر والسودان وتعاضدتهما.
مدينة هجليج بداية عملية جس نبض السودان الكبير
المواجهات الأخيرة التي دارت في مدينة هجليج وتصاعدها، كانت بمثابة جس نبض السودان الكبير، حيث أعلنت قوات جنوب السودان احتلالها للمدينة الغنية بالنفط في هجليج، وكانت هذه الخطوة إيذاناً لبداية مرحلة جديدة من التحدي، في جانبها الأول، سلفاكير المدعوم من "إسرائيل" أقدم على خطوة مدروسة هدفها كسر شوكة السودان في ظل مرحلة هامة وصعبة تمر بها أمتنا العربية، وتحولت المعركة الى "كسر عظم"، واستطاعت قوات السودان إعادة سيطرتها على مدينة هجليج بعد معركة كبيرة، وكانت قوات جنوب السودان قد أعلنت أنها لن تنسحب من تلك المدينة إلا بعد نشر قوات أممية في المنطقة والاتفاق معهم على ترسيم الحدود بين الدولتين، وكان الاعتقاد بأن دولاً اخرى ستتدخل الى جانب قوات الجنوب.
الى ذلك أعلن نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه: "أن تصريحات قادة الجنوب عن إمكان العودة الى طاولة المفاوضات هي محاولة قفز للخروج من مأزق الخسارة في هجليج".
وشكك عثمان في جدوى استمرار الحوار مع دولة جنوب السودان قبل سحب قواتها من الأراضي السودانية كافة، وأكّد، أن السودان جاهز لصد كل المؤمرات التي تديرها دولة الجنوب، مبدياً عدم مبالاته بالتهديدات الدولية بفرض عقوبات على الخرطوم وجوبا.
لقد مارس الجيش السوداني حقه الطبيعي في الدفاع عن أراضيه وسيادته الوطنية وبعد أن انحازت الولايات المتحدة الى دولة جنوب السودان بفعل اللوبي ومنظمات الضغط المرتبطة بالصهيونية.
والسودان اليوم يعول على قواه الذاتية وحقه في الدفاع عن النفس، وليس على مواقف واشنطن التي تحاول التدخل عبر قوات دولية توضع في مناطق الحدود، وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد دعا دولتي السودان الى العودة الى طاولة التفاوض لحسم القضايا العالقة بين البلدين، مدعياً أن المعارك لا تشكل بديلاً للحوار السلمي، وهددت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة سوزان رايس، بفرض عقوبات على الدولتين في حال استمرار القتال بينهما، وهذه رسالة تحمل في طياتها الكثير، فهي تنم عن سياسة المعايير المزدوجة التي تتصف بها السياسة الأميركية، فرغم أن المعتدي هو دولة جنوب السودان، فالتهديد الأميركي هنا يستهدف السودان من الناحية العملية.
وغداة احتلال مدينة هجليج من قبل قوات جنوب السودان، الذي تذرّعت حكومته بأنها ستنسحب بعد تهديدات الخرطوم، وحاولت الاستعانة بدعم خارجي لمنع القوات السودانية من التدخل متذرعة بانها ستنسحب، إلا أن رفض القيادة السودانية التجاوب مع هذه الأساليب في الاستجداء والمراوغة ودفع العامل الخارجي للتدخل، وتذرع رئيس حكومة جنوب السودان "رياك مشار" بأن قواته بدأت تنسحب من منطقة هجليج بعد احتلالها عشرة أيام، وقوله إن جوبا لا تتحمل أي عقوبات دولية في حال رفضت الخروج من المنطقة النفطية، ورأى أن جوبا بحاجة الى حملة لإقناع المجتمع الدولي بأن هجليج جنوبية وليست سودانية، هذه الذرائع الواهية لا تغطي الحقائق الدامغة وما آلت إليه الأوضاع بعد المعركة الكبيرة التي دارت هناك، وقائد القوات السودانية في تلك المنطقة أكد مقتل 938 عسكرياً من الجيش الجنوبي ومتمردي حركة العدل والمساواة وأسر عدد كبير من قادتهم في عملية استعادة هجليج، بعد أن خاضت القوات السودانية معركة تحرير هجليج باحترافية عالية راعت حساسية المنطقة، وتعاملت بحذر مع النيران والمؤثرات التي تسبب ضرراً للمنشآت النفطية.
وبعيداً عن المواجهة المباشرة بين السودان وجنوبه، أكد حاكم ولاية جنوب دارفور، "حماد اسماعيل" إحكام القوات الحكومية سيطرتها على المناطق التي هاجمها مقاتلو "حركة تحرير السودان" وقال، إن الجيش خاض معركة فاصلة مع المتمردين في منطقة كفن دبي المتاخمة للحدود الجنوبية.
الرئيس السوداني عمر البشير ومواقف حازمة
وبدوره أكد الرئيس السوداني عمر البشير، أن حكومته لن تتفاوض مع دولة الجنوب في حال استمرار دعمها المتمردين، وقال: "إن نفط جنوب السودان لن يمر مرة أخرى بالأراضي السودانية، وإن عرضت حكومة جوبا نصف إيراد النفط المنتج في الجنوب كرسم للعبور، ولن نفتح الأنبوب مرة أخرى، وكنا قبل اتفاق السلام نحارب من أجل النفط وكانوا يحاربون لإيقافه، والآن اغلقوا النفط عن الشمال من دون النظر لمصلحة شعبهم، لقد سلمناهم دولة كاملة الدسم، ولم يتمكنوا من الحفاظ عليها، وبعد الآن، إن من يمد يده على السودان سنقطعها له، ولن نفرط في شبر واحد من أرضنا".
وأوضح الرئيس البشير أن "بلاده ستبعد الجزرة وتستخدم العصا لتأديب قادة حكومة جنوب السودان، العدو الأول لبلاده، بعدما ارتضت صحبة الصهاينة وعملاء الغرب".
وحاول الرئيس البشير، أن يستعرض التجربة المريرة مع قيادة جنوب السودان، فقال: "إننا درّسنا قيادة الجنوب كثيراً لكنهم لم يعَوا الدرس، حدثناهم عن أهمية الوحدة ولم يفهموا، وعرّفناهم بأهمية السلام ولم يكترثوا، مسّكناهم حبل الوحدة فشدوه وانقطع، فتلقف الشمال الأفعى، وهددنا فإن هذه الافعى سيلفها المشال في عنق الجنوب".
لقد سعت حكومة الجنوب لمغازلة "إسرائيل" ودول الغرب خوفاً من أن يفتح الشمال جبهة عداء مع هؤلاء، وبعد أن أعطى الشمال للجنوب دولة كاملة فيها بترول، ولكنهم فهموا أن أميركا لن تعاقبهم وهذا صحيح ولا مجلس الأمن أيضاً.
الخرطوم وشروطها لتطبيع العلاقات مع جوبا
وطرحت حكومة الشمال "الخرطوم" عدداً من الشروط لتطبيع العلاقات مع دولة جنوب السودان (جوبا) في أعقاب معركة هجليج النفطية التي طرد فيها جيش السودان قوات الجنوب، وإعادة السيطرة على مدينة هجليج، تبدأ باعتراف سلطات جنوب السودان بالاتفاقيات الموقعة سابقاً ومذكرة التفاهم في شأن الأمن وبينهما ميثاق عدم اعتداء وقعه في شباط الماضي رئيسا الاستخبارات في البلدين، بأن تعترف سلطات جنوب السودان بالحدود التي كانت موجودة قبل استقلال السودان عن بريطانيا ومصر في الأول من كانون الثاني 1956، ودعت الحكومة السودانية الى إنهاء كل الاعتداءات على أراضيها وانسحاب قوات جنوب السودان التي لا تزال على هذه الأراضي، وأن توقف جوبا دعمها للمتمردين الذين يقاتلون الدولة السودانية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، كما طالبت الخرطوم من جوبا الكف عن دعم واستقبال الفصائل المتمردة من إقليم دارفود.
الرئيس البشير أعطى الأوامر لوزير دفاعه الفريق عبد الرحيم محمد حسين بتطهير دارفور والمنطقتين من المتمردين قبل حلول فصل الخريف في تموز المقبل.
السؤال، من الذي يحرك الأوضاع في تلك المنطقة؟ ومن هو صاحب المصلحة في تدهور الأوضاع هناك؟ وإذا لم تكف الأيادي العابثة بمصير السودان عن أفعالها ستستمر الحالة الراهنة هناك، إنه صراع على المصالح والثروات والنفوذ والموقع، إنها لعبة الأمم تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي، ولعبة خلط الأوراق مازالت في بدايتها، لأن الكيان الصهيوني الغاصب يتدخل في تلك المنطقة انطلاقاً من حسابات استراتيجية، ويجد في الدعم الأميركي تشجيعاً له لتشكيل رأس حربة جديد في الجسد العربي والإفريقي.
نبيل مرعي