برنامجهم سيكشفهم في السلطة
"الأخوان المسلمون" يربحون أميركا ويخسرون فلسطين
في القمة العربية الأخيرة التي عقدت في بغداد، عارضت بعض الدول العربية ومنها مصر موقف دول الخليج الذي ضغط بشدة لتسليح "المعارضة السورية" فما كان من بعض الدول الخليجية إلا أن دعت الى اجتماع لمجلس التعاون الخليجي، الذي دعا الى تسليح "المعارضة السورية" وتولت تلك الدول لاحقاً تمويل عملية التسليح، ولم يقف الأمر لدى تلك الدول الخليجية عند حدود المواقف السلبية بل وصل الى حد التدخل في شؤون الدول العربية ومحاولة التأثير على موازين القوى داخل تلك الدول بدعوة الى الحد من نفوذ تيارات التطرف وتعزيز مواقف "قوى الاعتدال"، وإذا نظرنا الى المشهد في وضعه الراهن، سنجد أن هناك معادلة يتم العمل من خلالها، وفي آلياتها تفكيك الدول العربية وإضعافها الى أقصى الحدود، وهنا نميز ما بين الثورة الحقيقية التي تعني التغيير باتجاه الأفضل والحفاظ على مكتسبات الشعب والأمة، والتأكيد على الهوية الجامعة وتجميع الجهود في بوتقة واحدة ووضع سلم لأولويات الصراع والعمل من خلال محصلة واحدة ضمن رؤى موحدة، تميز بين الصديق الحليف وبين العدو المرتبص، وليس هناك من ثورة في أي بلد تدمر مقدرات البلاد وتبدد الثروات وتوقف عجلة الحياة والإعمار وتغتال العلماء وتضرب البنية التحتية وتدمر الاقتصاد وتفكك النسيج الاجتماعي في بلدها، والسؤال، من الذي يعطي مثل هذه الأوامر؟ ومن هي الجهات التي تقف خلفه وتدعمه؟! ومنذ أن بدأت "الثورات والأحداث" نجد الأزمة، ومؤشرات ذلك، دول تتعرض لتهديدات وزلازل تهدد وحدتها أو وجودها، فالعراق الذي فرقه الاحتلال الأميركي تمّ تقسيمه عملياً الى عدة أقاليم، وبعض مكوناته في الشمال يهدد بالانفصال، وليبيا تقف على أبواب الكونفدرالية بعد تشكيل مجلس انتقالي جديد في بنغازي يهدد بالعودة الى قسمة الولايات الثلاث أو أكثر، وحال عدد آخر من الدول العربية ليس بأحسن حال، في اليمن والجزائر والمغرب والسودان وغيرها.
مرتكزات السياسة الأميركية في الخليج
في هذه الأجواء يبدو العالم العربي وقد تداعت أركانه، وتبدو منطقة الخليج كأنها جزيرة هادئة، وفي الحقيقة لا تظهر للملأ طبيعة تفاعلاتها التحتية، وللمفارقة أصبحت دول الخليج تظهر وكأنها لاعباً في الساحة العربية بسبب وفرة أموالها وتواجد النفط هناك، جعلها أحد مرتكزات السياسة الأميركية من ناحية، لأنها تؤدي وظائف متعددة ومستعدة دائماً لدفع الثمن عاجلاً أو آجلاً، وهذا ما يوفر للطامعين بأمتنا وثرواتها فرصة نادرة، وهناك من يقوم بعملية نفخ مبرمجة تظهرها دولة قطر وكذلك السعودية وكأنهما قوة عظمى في المنطقة العربية، في ظل الأزمات والأحداث التي تعصف بدول عربية وازنة لها تاريخها الطويل ومواقفها في ساحة الصراع الحقيقية في مواجهة المشاريع الاستعمارية – الصهيونية، ومثال ذلك ما يدور في مصر، وما تتعرض له سوريا من استهداف وهجمة كبرى قل نظيرها في العالم.
العالم العربي يبدو في هذه الأيام وكأنه جسد منهك بفضل الطعنات التي يتلقاها بعد أن فقد تضامنه الداخلي وفرط بمقوماته الأساسية ووحدته وبات منهوباً لكل الطامعين، الذين فعلوا فعلتهم بإتقان بعد أن انكسرت مصر وتم تكبيلها بمعاهدات الذل والهوان فاختلطت الأوراق واختلت الموازين.
"الربيع العربي" جاء بالإخوان الى السلطة
وفي زمن ما يسمى "الربيع العربي" وهو في الحقيقة ربيع أميركي كالح السواد، "الإخوان المسلمون" بدأوا بالتربع على رأس السلطة في أكثر من بلد عربي، والثورة أنجبها جيل المعاناة من الشباب وجيل الرفض للظلم والاستبداد ومعاهدات الذل، الثورة تصادر اليوم أمام مرأى وسمع العالم أجمع، فالبلاد والعباد يتم المساومة عليهم، مقابل الرضا الأميركي، وتعقد الصفقات جهاراً، وتفتح الأبواب لـ "الأخوان المسلمين" للإمساك بالقرارات، وخاصة بعد شريعة صناديق الاقتراع في مصر وتونس، وصلوا الى مقاعد السلطتين التشريعية والتنفيذية، وذهبوا للترشح للرئاسة المصرية، وبعدما باتت "النهضة" في موقع إدارة الحكم في تونس.
وهكذا تحول الاتجاه الإخواني عموماً ويليه السلفي تحديداً ولأول مرة في التاريخ المعاصر الى المسؤول المباشر الذي سيتحمل مسؤولية سياسات بلاده المستقبلية، والى موضع ترقب وحتى رهان القوى الإقليمية والدولية، وتتحدث السيناريوهات الغربية عن أدوار الإسلاميين المرتقبة أو الممكنة في تحديد اتجاهات المحاور أو التوازنات المقبلة في الشرق الأوسط بعد التغييرات التي حصلت في مصر وتونس والرهانات الأخرى التي تصب في نفس الاتجاه.
وبعد عام على "الثورات" في مصر وتونس، يؤكد الإسلاميون باتجاهاتهم كافة "إخوانية وسلفية" أن أولوياتهم هي أولويات داخلية، لا فرق بين الاتجاه الإخواني الذي يريد البحث أولاً عن حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ أسس الدولة والمؤسسات، والاتجاه السلفي الذي يريد تطبيق الشريعة أولاً، ويتفق الطرفان على تأجيل الأولويات الأخرى، أي ما يتصل بالسياسات الخارجية والاقتصادية، وبالعلاقة مع الغرب، أوروبا والولايات المتحدة من جهة واتفاقيات كامب ديفيد والصراع العربي – الإسرائيلي من جهة ثانية.
لم تتمكن الثورة بسبب "مرحليتها" في مصر وتونس وبسبب غياب القيادة الواحدة الموحدة من التجرؤ على اقتلاع فلول النظام السابق، وهؤلاء لم يغادروا مواقع القدرة والسيطرة في معظم أجهزة الدولة ومؤسساتها، وعدم التعرض لهم، يعني استمرار أذرع النظام السابق على الرغم من التغيير الذي حصل، والسؤال هنا: أليس الغرب هو من دعم الأنظمة السابقة، ومن قال إنه لن يدعم الأذرع المتبقية لكي تبقى وسيلة ضغط على النظام الإسلامي الجديد.
والسؤال أيضاَ، هل سيسمح الغرب (أوروبا والولاويات المتحدة) قبول التطمينات من الإسلاميين بعدم التعرض لمصالحة أو لأمن "إسرائيل"، وهل يتسامح الغرب مع نجاح تجربة الإسلاميين وتعبيد الطريق لهم لتقديم النموذج الإسلامي المختلف؟
وعلى سبيل المثال، راشد الغنوشي زعيم "حركة النضهة" التونسية، وبعد حصوله على 40 % من أصوات الناخبين قال في "معهد واشنطن" إنه مهتم بتونس، وأن أولوياته تونس، في حين أن للآخرين أولوياتهم ليبيا أو فلسطين، وأنه لا يريد سوى أن تنجح التجرية في تونس، ورغم قوله هذا، فقد ترك تونس لتنحاز الى أحد محاور الصراع الحاد في سوريا واستضاف "مؤتمر أصدقاء سوريا" على الرغم من الخلاف بين القوى الإقليمية وحتى الدولية حول طبيعة هذا المؤتمر، وحول المشاركة فيه أصلاً.
والغنوشي هذا تجنب في المعهد نفسه تأكيد الانحياز ضد "إسرائيل" عندما قال: "ليس في دستور تونس ما يمنع العلاقات مع "إسرائيل"
وأيضاً نسأل ما هو النموذج الذي تقدمه النهضة؟
من هنا ذهب الغنوشي الى "معهد واشنطن" المعروف بولائه الصهيوني ليتحدث عن أولوية تونس بالنسبة إليه، فهو يريد أن يشيع الاطمئنان بأن لا طموحات إسلامية واسعة لديه مثل الوحدة أو فلسطين، وهو يريد أن يؤكد على "تعقل الحركة الإسلامية".
هذا في تونس، أما في مصر، فالمواقف أشد خطورة ودقة وحساسية، نظراً لموقع مصر الجيوسياسي ودورها في الصراع العربي – الإسرائيلي، وتاريخها في المنطقة العربية والإسلامية والأفريقية.
وماذا تعني اللقاءات بين مسؤولي الإخوان وبين المسؤولين الأميركيين بعد الثورات وبعد الانتخابات التي فاز بها الإخوان بغالبية المقاعد البرلمانية، مَن بحاجة الى مَن؟ هل قدم الأميركيون الاعتذار لأن النظام السابق زجهم في السجون؟ أم أن المطلوب من الإسلاميين التعهد باحترام حقوق الأقليات والعملية الديمقراطية واتفاقيات كامب ديفيد الموقعة مع الإسرائيليين؟
لماذا يصمت الإسلاميون عن اتفاقيات كامب ديفيد، أما السلفيون فهم متشددون في ضرورة تطبيق الشريعة ولكن كامب ديفيد بالنسبة إليهم هي اتفاقية دولية يجب احترامها ولكن يمكن مراجعة بنودها المجحفة بحق مصر اقتصادياً.
ما هو برنامج الإسلاميين؟
الصراع مازال مفتوحاً مع المشروع الإسرائيلي الذي هو حصيلة مخطط دولي اجتمعت على إعداده دول كبرى وهيئات ومنظمات اجتماعية وفكرية ترفدها رساميل هائلة، وفي أوج الأحداث الجارية في العالم العربي وعملية خلط الأوراق المبرمجة وركوب موجة "الثورات" من قبل الولايات المتحدة، اختار الإسلاميون التركيز على الجانب الديني لهذا المشروع السياسي الخطير، موفرين مزيداً من المبررات لحرب دينية، في حين أنها، حرب مصالح استراتيجية، تهدف الى فرض هيمنة مديدة على الأرض العربية الغنية بمواردها ومواقعها، وفضل الإسلاميون الاتكاء على مساندة معلنة من قبل القوى العالمية الكبرى في مواجهة التيار الوطني – القومي التقدمي في العديد من الأقطار، وبعد أن أعادتهم الانتفاضات والأحداث الى الحياة من جديد.
والمسألة المطروحة تتصل ببرنامج الإسلاميين على تنوعهم الإخواني والسلفي، سواء بالصيغة القديمة أو الحديثة بعد إجراء التعديلات اللازمة عليها، كما في طبعتها التركية التي يراها البعض "معاصرة"، ويمتدح نجاح مؤسسيها ودعاتها والحاكمين باسمها في تقديم "نسخة حضارية" يقبلها الغرب ويزكيها، في تقدير الجمهور المخاصم للتوجهات الإسلامية.
القضية الفلسطينية تتصدر الأسئلة المطروحة وتفرض نفسها على الحاضر والغد العربي، وهي القضية المركزية للأمة، ويفترض أن تتصدر الامتحان الفعلي لبرنامج الإخوان المسلمين وهم يتقدمون مواقع القرار في أكثر من بلد عربي؟
من المؤكد، أن النموذج التركي لا يفي بالغاية المرجوة، وهو لا يوفر ما هو مطلوب ولم يبحث عن الغد الأفضل، في التحرر واستقلال الإرادة والحق في بناء تجربة مميزة، وفلسطين هنا هي البوصلة والميزان، وتركيا ليست النموذج وهي تحت الحكم "الإسلامي الأخواني" وعلاقتها المميزة تجاه "إسرائيل" ومع الغرب الداعم والحامي للمشروع الإسرائيلي، فهي عضو في حلف الناتو وماتزال القواعد الأميركية فيها.
وبعض المؤشرات مقلقة ولكنها تعطي مؤشراً هاماً، ما الذي يعنيه غياب أي ذكر لفلسطين في برنامج "الانتفاضات"، كما في مصر وتونس، والأدهى من ذلك، أن رموز الحكم الجديد في تونس أبدوا حماسة شديدة "للمعارضة" السورية حين استضافوا مؤتمرها وشنوا حملة على النظام في سوريا، وهم بذلك أثبتوا أنهم أعداء سوريا وأصدقاء لـ "إسرائيل"
وفي مصر العروبة تبدو الحقيقة أكثر وضوحاً، الميدان صنع الثورة وأسقط رأس النظام، وكان ميداناً آخر من "الأخوان المسلمين" يعقد الصفقات مع الرأس المؤقت وبمباركة أميركية، ليؤمن المناخ الذي يمكنه من جني ثمار الانتفاضة التي لم يكن من أطلقها، ولكنه الأقدر على الإفادة من مناخها لتحقيق نصر سياسي باهر لم يكن ليتحقق لولا "التواطؤ" شبه المعلن مع المجلس العسكري، بدأ بتعديل الدستور وصولاً الى الانتخابات الرئاسية.
قاتل الإسلاميون تحت راية فلسطين ولهم شهداء، وكانوا معادين للصهيونية قبل وصولهم السلطة، ما الذي تغيّر الآن، وهل أصبح الخيار بين السلطة وفلسطين عنوان المفاضلة، من الصعب أن نقول ذلك، ولكن ما الذي يعنيه قبولهم بالمعاهدات المعقودة مع "إسرائيل"؟ وهل السلطة في مثل هذه الحالة منحة أميركية؟ وشرطها التخلي عن القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى والقبول بتسليم أولويات صنع في أميركا!
الأمور لم تحسم بعد، وساعة الحسم تقترب والظلم والباطل الى زوال، والحقيقة يصنعها المقاومون الحقيقيون.
محمود صالح