تتكاثر المؤتمرات والمؤامرات والتفجيرات عليها
سوريا مستهدفة بالصراع الدولي والإقليمي لتغيير موقعها في الصراع مع "إسرائيل"
لا حاجة الى تبسيط الأمور من أجل إيضاح ما يجري في منطقتنا العربية، الحرب بدأت منذ أكثر من عام ونصف العام والمستهدف من وراءها سوريا وأمتنا العربية والإسلامية، أما أبعاد هذه الحرب فهي من طبيعة استراتيجية عالمية تقودها الولايات المتحدة وقوى الغرب المتصهين، وأدوات تلك الحرب هي محلية وإقليمية تمّ تسخيرها لتدمير كل مقومات المقاومة والتقدم في عالمنا العربي والإسلامي وصولاً الى تدمير حضارة كاملة عمرها آلاف السنين والعودة بالمنطقة الى عهود التخلف والتبعية والاستبداد والعبودية، الحرب هذه مرشحة للاستمرار الى حين طالما الخاسر الوحيد هو أبناء أمتنا الواحدة، وطالما من يدفع الأثمان هو شعبنا العربي من حسابات ثرواته ونفطه المنهوب أميركياً وصهيونياً، والمال العربي يُدفع من أجل إطفاء الأزمات المالية العالمية لصالح قوى الاستعمار، ويُدفع المال العربي الى أدوات التخريب والقتل بعد أن تمّ تعميتهم وتحريضهم وإثارة الغرائز والفتن القاتلة فيهم، بحيث أصبح الدم العربي يدفع في غير اتجاه، بات العربي يقتل لينال رضا الأجنبي الطامع في خيرات أمتنا، وبعد أن تمّ اتباع سياسة استعمارية قديمة "فرّق تَسُد"، هذه التفرقة يحاولون اليوم تحديثها مستخدمين كل فنون التحايل والتضليل الإعلامي وتشويه الحقائق من أجل أن تستمر النيران مشتعلة تحرق كل شيء وحتى أحلام أجيالنا في حياة حرة كريهة.
ما يجري ليس بالأمر العادي أو حرب كلاسيكية، إنها جزء من مخطط جهنمي يستهدف استمرار السيطرة الاستعمارية على المنطقة وتأمين الأمن للكيان الصهيوني المغروس كحربة وخنجراً في جسد الأمة.
لقد انتقلت صورة التدخل الأجنبي في المنطقة من الوكيل الى الأصيل المكشوف والمعروف، لم تعد "إسرائيل" أداة كما خطط لها، بل أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من امبراطورية الشر والعدوان في العالم، والدول الاستعمارية في مشروعها تحاول منع قيام أي دولة عربية قادرة قوية مستقلة في قرارها ويريدون مصادرة القرار لأي جهة عربية تحاول التفكير في تكوين نفسها وحماية حدودها وصون كرامتها والهدف الاستعماري دائماً هو السيطرة ونهب الثروات.
نواة صلبة لقوى المقاومة
اليوم يتم استهداف سوريا لأنها شكلت نواة صلبة لقوى المقاومة في أمتنا، وحجم الهجمة التي تستهدف هذا البلد تدلنا على صواب المسار وصحة النهج الذي خطته القيادة السورية الحكيمة التي تدافع اليوم عن كل مواطن في أمتنا، ومعها أحرار وشرفاء الأمة من المقاومين بينما يركن بعض الحكام في زوايا عروشهم المحمية بالأساطيل الاستعمارية الغربية ومنها الأميركية، لا احتراماً وتقديراً لأولئك بل من أجل الاستمرار في مصادرة قرارهم وجعلهم مجرد واجهة وستار لكي تدار الامور من خلف الستارة.
سوريا ماضية في مقاومتها وصمودها وعملية الإصلاح مستمرة رغم الظروف الصعبة والأزمة التي يتم إشعالها من الخارج، وهذا يعبر عن مدى صلابة الشعب العربي في سوريا وإصرار قيادته الحكيمة على المضي قدماً في نقل صورة حقيقية عن مدى ما تحقق وفي مدة قياسية، وهذا أمر طبيعي، لأن الإصلاح يقوم به السوريون، أما الأزمة فهي تدار من الخارج ويتم تغذيتها باستمرار.
أدوار أميركية حذرة لدرجة المأزق
وخلال الأزمة السورية اُتسمت مواقف الإدارة الأميركية بالحذر وعدم الحسم تجاه الأزمة، والدبلوماسية الناعمة المتبعة أحياناً، وسقف التصريحات السياسية المرتفع لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون هدفه صب الزيت على نار الأزمة، وهي اكتفت بمستوى معين من الانخراط الأميركي في مختلف الفعاليات والمؤتمرات السياسية، وأصدرت لوائح العقوبات، ولكنها تقف بقوة ضد أي محاولات لإحداث تغييرات ميدانية واستراتيجية من خلال ضبط سلوك وتوجهات حلفائها في المنطقة ومنعهم من التصرف بطريقة من ِشأنها أخذ الأمور باتجاهات غير محسوبة بالنسبة لإدارة أوباما الغارقة في أزماتها المالية والمقبلة على انتخابات رئاسية، وقد بدا ذلك واضحاً بشكل جلي عقب حادثة إسقاط الطائرة التركية بنيران وسائل الدفاع الجوي السورية بالقرب من الساحل السوري، وحاولت واشنطن لجم الاندفاع التركي وعدم تأمين الغطاء الذي تريده أنقرة من حلف الناتو، وكذلك قيامها بتبريد الرؤوس الحامية، ولجم الثلاثي "البريطاني- الفرنسي – التركي" وضبط سلوكه عبر سياسة الحلف واستراتيجيته الأشمل في المنطقة والعالم، ولم يقف الأمر عن هذا الحد، بل تعدته واشنطن في تحديد نوعية الأسلحة وكميتها المسموح تسليمها "للمعارضة".
وموسكو من جهتها التقطت حالة الحذر الأميركي منذ مدة وضبطت سياستها تجاه الازمة السورية على أساس موضوعي، ونذكر حادثة تعامل الوزير الروسي لافروف مع نظيريه التركي والقطري المسربة في أروقة اجتماعات جنيف التي كشفت جزءًا من الحقيقة، حيث رفض إصرارهما على تبني سياسات جذرية تجاه الأزمة السورية، وتذكيرها بأن هذا الشأن يخص القوى الكبرى، وبديهي أن الجانب الروسي ما كان يجرؤ على المجاهرة بذلك إلا نتيجة لموقف سوريا وصمودها في وجه المؤامرة وما تمثله من ثقل إقليمي وازن في المنطقة، وكذلك أيضاً من تأكد الجانب الروسي من حقيقة الموقف الأميركي ومعرفة مداه، وفي هذا السياق كانت زيارة الرئيس بوتين لكل من فرنسا وألمانيا، إذ من الطبيعي أنه لو كانت هناك استراتيجية صلبة ورؤية واضحة بين واشنطن وحلفائها لما طمح بوتين الى محاولة اختراقها، ولا ننسى الموقف المبدئي الذي اتخذته روسيا منذ بداية الأزمة ومازالت كل الدلائل تؤكد أن إدارة أوباما أصبحت تخوض المعترك السوري من دون رؤية واضحة، هذا بسبب صمود سوريا وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وواشنطن بدأت تدرك أنها في الحدث السوري تواجه مجموعة من القوى التي تنتظر توريطها بفارغ الصبر على أمل أن يفتح ذلك نوافذ حقيقية للتفاوض معها وتحقيق تقدم في الملفات العالقة في أكثر من مكان في العالم، وهي تفضل اعتماد مخارج غير مكفلة من خلال الدعم المحسوب لما يسمى بـ "المعارضة" وهي تضبط سلوك حلفائها كي لا يؤدي اندفاعهم الى التورط في نزاعات إقليمية قد تحرجها.
في هذا السياق تأتي تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الـ "ناتو" أندريس فوغ راسموسن، وفي مقابلة نشرها مركز "شانتهام هاوس" البريطاني للدراسات: " أن الحلف ليس لديه نية التدخل عسكرياً في سوريا، إننا نعتقد بأن الطريق الصحيح في سوريا هو الحل السياسي ولأسباب عديدة لكن هذا هو القول النهائي".
وهبوط قوة تركيا
وكذلك تركيا، فقد أكّدت أنها لن تقدم على أي عمل عسكري من دون حلف شمال الأطلسي، أو دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أصيب بالشلل نتيجة الموقف الروسي والصيني المساند لسوريا، وهذا يعني أن خيارات أنقرة الفعلية محدودة، بخاصة أنها مازالت تواجه الأكراد الباحثين عن تقرير مصيرهم في جنوبها الشرقي والمستمر منذ نحو 30 عاماً وأسفر عن سقوط أكثر من 40 ألف قتيل منهم ما يقدر بنحو 500 خلال العام المنصرم.
وبشأن إسقاط الطائرة الحربية التركية، قالت لالي كمال رئيسة تحرير صحيفة "طرف" في أنقرة: "أن تركيا لم يكن يتعين عليها أن تدفع بطائرات قرب بلد مثل سوريا، لقد قالت سوريا لتركيا من خلال إسقاط الطائرة، انظروا لدينا القوة، يمكننا أن نسقط طائراتكم، أنتم أعضاء في حلف شمال الأطلسي، لكن لدينا أيضاً قوة نيران كبيرة".
وبعد أن أعلن أردوغان أن تركيا شددت من قواعد الاشتباك على الحدود مع سوريا، اتهمه زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي كمال كيليجدار أوغلو بالمقامرة بالمصالح الوطنية، وقال له بوضوح: "اليوم إذا كنت تخادع بتصريحاتك فإنك بذلك تفقد عنصر الردع على المستوى الدولي".
خطة أنان وإتفاق جنيف ومؤتمرات الأعداء في لعبة الموازين الدولية
سوريا أصبحت ساحة حرب حقيقية على المستويين العسكري والسياسي، في جانب تقف سوريا ومعها منظومة المقاومة في أمتنا والى جانبها دول البريكس وعلى رأسها روسيا والصين، وفي الجانب الآخر يقف الحلف الأميركي – الغربي المتصهين ومعه أدواته الإقليمية والمحلية، ومؤشرات تلك الحرب، كثرة المؤتمرات واللقاءات والمشاريع والخطط والمناورات من جهة والثمن الذي يدفعه السوريون من جراء استمرار الأزمة.
الدول المتآمرة مازالت تراهن على عامل الوقت من خلال محاصرة سوريا اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وإثارة أعمال العنف المأجور داخلياً، وفي ذروة هذا الصراع المستعر، برز ما يسمى "مؤتمر أصدقاء سوريا" الذي أصبح بمثابة الترويج المتواصل لقوى التخريب التي تستهدف إضعاف سوريا وإخضاعها لإرادة الطامعين، وفي ذاك المؤتمر الذي عقد في باريس، خرج هؤلاء بما جاؤوا من أجله، الحصول على تفويض من أكبر عدد ممكن من الدول لعرض صيغة وقراءة "فرنسية" لاتفاق "جنيف" تضع روسيا أمام خيارات دبلوماسية صعبة، وإما العزلة في قلب الأسرة الدولية، وكذلك تهديد الصين بأنها ستدفع ثمن دعمها لسوريا ونظامها كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والتي أكّدت أنه "لا بد من اللجوء مجدداً الى مجلس الأمن للمطالبة بتطبيق خطة جنيف التي وافقت عليها روسيا والصين"، ولاستكمال محاصرة وتقييد الحليف الروسي، توافق "أولئك الأصدقاء" على دعوة مجلس الأمن للتصويت على تبني خطة أنان ووضعها تحت الفصل السابع، وربطها بقراءاتهم لجنيف، وهذا التوافق يخالف تماماً الموقف الروسي والصيني.
وتجنب أعداء سوريا، في مطالبتهم وضع خطة أنان و"جنيفهم" تحت الفصل السابع والذهاب بعيداً في تحدي الروس، إذ نزع "هؤلاء" من الفصل السابع شوكته العسكرية والتهديد بالتدخل العسكري لفرضها بالقوة، فطلبوا إضافة تدابير المادة 41 التي تستثني اللجوء الى القوة العسكرية في تطبيقه، ويعكس ذلك حذر الغربيين في النص، من تقييد أنفسهم بالتزامات عسكرية، وعدم نضوج الشروط لأي تدخل عسكري مباشر، وغياب أي استعداد منهم لأي أكلاف تدخل عسكري في سوريا.
وعكس بيان الأعداء تميّزاً لافتاً في تركيبة المعارضة السورية عندما خص بالدعم منها الديمقراطية فحسب، وقال وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس: "إنه يمكن أن تتواجد في صفوف المعارضة السورية، عناصر تعادي النظام من دون أن تملك تصورات ديمقراطية وبعضها إرهابي، ونحن لا نريد هذه العناصر".
وهناك أفكار أخرى تدرس للالتفاف على الفيتو الروسي في مجلس الأمن بالعودة الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي تراهن على "القرار رقم 377 الذي صدر في الخمسينات وترى أنه يمثل سابقة يمكن العودة إليها ويسمح للولايات المتحدة باستصدار قرار من الأمم المتحدة للتدخل في الحرب الكورية"، ويعتقد الدبلوماسيون في باريس بأنه ستوجد أكثرية قوية تؤيد قراراً بالتدخل في سوريا، إذا استمر الروس في إقفال أبواب مجلس الأمن أمام الغربيين.
من هنا يمكن القول، إن اتفاق جنيف الذي أبرم قبل اسبوع من مؤتمر "أصدقاء سوريا" في باريس لم يمكن اتفاقاً وإلا لماذا انعقد المؤتمر في غياب روسيا والصين، وغاب أيضاً كوفي أنان، وهنا يصح القول، إن اتفاق جنيف المفترض تمّ قراءته من زاويتين متناقضتين.
الموقف الروسي يتميز بالثبات والقوة وهو يمسك وبشكل كامل بالورقة السورية، من خلال الحوار، ولأن امتلاك المفتاح السوري يعني امتلاكاً لشبكة معقدة من العلاقات والمصالح في المنطقة كلها.
لذلك أصبحت سوريا مركز الصراع الدولي، واحتدم الصراع بشكل استثنائي عندما عبرت روسيا عن تشدد واضح في موقفها تجاه الأزمة السورية والتمسك باتفاق جنيف من دون التأويل الغربي، ورفض أي مساومة حول قرار دولي يدين سوريا ويشمل الفصل السابع مقابل التمديد لفريق المراقبين، والتعامل مع "المعارضة" السورية على أنها أداة ضغط غربي على دمشق وموسكو، ووزير الخارجية الروسية لافروف أكد أن موقف روسيا لن يتراجع أبداً أمام محاولات عزلها في مجلس الأمن، بل ستتشدد في مواجتها لصراع سيستمر ولا أفق لأي حل يأتي من "الأعراب" وجامعتهم، والحل الوحيد هو ما سيفرضه صمود سوريا وجيشها وشعبها في مواجهة هذه الهجمة الشرسة لقوى البغي والعدوان، وسوريا التي عدوتنا دائماً، بأنها مصدر القرار العربي، تضع في أولويتها مصلحة الأمة فوق أي اعتبار وهي تتمسك بالحقوق العربية وهي لم ولن تساوم على حبة تراب وهي تنطلق في ذلك من خلل رؤية واضحة وأفق بعيد الرؤية، لذلك هي صمدت وتقاوم وتنتصر، وانتصارها سيشكل رافعة جديدة لتطلعات الأجيال بغد مشرق وفي احتلال مكانة مرموقة في صنع الحضارة وإعطاء المثل الأعلى للحرية والتحرر والكرامة.
محمود صالح
كادر:
لا عجباً بني قومي، سوريا تقاتل اليوم عن شرف وكرامة الأمة وهي تقدم التضحيات، كم أنت كبيرة يا عاصمة المقاومة، وأنت تضيفين للمجد والحضارة نكهة جديدة بصمودك الرائع وانتصارك لفلسطين ولقضايا الأمة، تعضين على الجرح وكلّك ثقة بأن المبادئ والثوابت باقية، وربيعنا نحن يختلف عن ربيع "الأعراب".
في ربيعنا العزة والكرامة والوفاء والمقاومة ورائحة الياسمين وفي ربيعهم الذل والتآمر والاستسلام لإرادة الطامعين.