سوريا: المؤامرة مرّت من هنا
دخلت سوريا في 2011 مرحلة صراع إقليمي ودولي لم تشهدها منطقتنا منذ الحرب الباردة. وحروب بوش وكلينتون وبوش الأب لم تكن سوى مقدمة لصراعات وحروب عالميّة لتغيير المعادلة الدولية. قد تشبه مرحلة الصراع الحالية حرب السويس في 1956، إذ منذ تعقيدات التداخل والتشابك بين المؤامرات، تكالبت في الحالة السوريّة القوى الإقليميّة والعالميّة في صراع لا علاقة له البتّة بالشعب السوري. وعندما تطلّ الحكومة الأميركيّة برأسها للتدخّل العسكري والدبلوماسي، تكون "إسرائيل" ليست ببعيدة عنها أبداً، ما يجعل المقاصد الإنسانيّة الشريفة لا وجود لها في حزمة مُقرِّرات السياسة الخارجّة الأميركيّة. لكن هذه المرّة فوجئت الحكومة الأميركيّة بفيتو صيني وروسي ضد محاولة التدخّل العسكري الغربي: إذا كانت ذريعة "حماية المدنيّين" قد أدّت إلى اجتياح وحشي لليبيا، فإنّ قراراً من مجلس الأمن بالتدخّل العسكريّ كان سيسمح للدول الغربيّة بشن حرب عالميّة على سوريا.
ومن خلال تكرار الفيتو في مجلس الأمن نجد أن روسيا والصين تعدّان لمستقبل لا تسمحان فيه بعد اليوم للولايات المتحدّة بالاستئثار بالمقدّرات الكونيّة إلى الدرجة الحاليّة.
أميركا تدير قطر والسعوديّة ومبادراتهما، وإن كانت بعض الخلافات التفصيليّة تعتري بنية العلاقات بين الطرفيْن غير المتكافئيْن: أميركا تدير دفّة الأزمات المفتعلة المضادة في العالم العربي، وثنائي قطر والسعوديّة يتحرّك بهامش صغير من خلال دعم ما يسمى المعارضة السورية بالمال والسلاح.
أميركا تريد إنهاك الخصم السوري، لكنّها غير متأكّدة من صوابية قلب النظام. وقد ظهر هذا عندما عارضت هيلاري كلينتون تسليح المعارضات السوريّة، خوفاً من وصول السلاح إلى مجموعات تصفها أميركا بـ "الإرهابيّة"، لكن السعوديّة وقطر تبديان حماسة كبرى للتسليح.
كذلك فإنّ أميركا و"إسرائيل" لم تتوافقا بعد على رؤيتهما للوضع السوري. تتوافقان على ضرورة إنهاك النظام السوري، وعلى ضرورة دعم حركة 14 آذار السوريّة، لكن الجدال لم ينته في البلديْن بشأن صوابيّة قلب النظام بالكامل. فهما تريدان ضرب مواقع مختلفة في محور المقاومة والممانعة في المنطقة العربيّة.
المؤامرات باتت مكثّفة على سوريا، إلى درجة أنّه يمكن تحديد أبعادها المختلفة. والصراع اليوم مُستعر بسبب ما يجري في سوريا. وطلب تسليح المعارضة من قبل سعود الفيصل هو من أجل الدفع بالصراع إلى النهاية.
النظام السعودي الذي يحمل عقيدة الكراهية المذهبيّة والدينيّة، وهي في صلب الوهابيّة، يحاول تحويل الصراع في المنطقة إلى صراع سني ــ شيعي وقد خاضته السعوديّة بحماسة منذ 2003. وهناك أيضاً صراع على مستوى أعلى من الصراع الإقليمي الأبرز، هو الصراع بين أميركا من جهة ومنافسيها أي روسيا والصين. لكن المنافسة العالميّة تلك هدفها محاولة إبعاد روسيا عن المصالح الأميركيّة العالميّة بصورة لم تظهر منذ نهاية الاتحاد السوفياتي. وهناك أيضاً الصراع اللبناني الذي تدور رحاه في سوريا: لا تجرؤ 14 آذار على مواجهة "حزب الله" وحلفائه في لبنان، لهذا فهي ترمي بثقلها في الصراع السوري لعلّها تصيب "حزب الله"، فتختلق الإشاعات عن مشاركة "حزب الله" في الصراع في سوريا، لتبييض صفحتها مع "إسرائيل" وتسويغ تدخّلها العسكري والمالي والسياسي والدعائي في الصراع السوري.
لكنّ هناك بعداً آخر غير خفي في الصراع، إنّ "إسرائيل" أيضاً تخوض غمار الصراع في سوريا، وليست التطمينات التي يرسلها برهان غليون ورياض الشقفة إلى "إسرائيل" ليست صدفة إطلاقاً. وقد باشرت أطراف في المعارضة السوريّة مبكّراً اختلاق الروايات عن ضلوع لـ "حزب الله" وللحرس الثوري الإيراني في المشاركة في النزاع الدائر في سوريا، وقد بدأت "إسرائيل" الحرب مع أعدائها في سوريا، وكانت قد بدأت في الحرب في سوريا قبل أعوام، عبر قصف مواقع سورية في "بوكمال" قالت عنها بأنها مفاعل نووي، وسيّارات مفخّخة واغتيالات.
لماذا هذه المؤامرة على سوريا؟
لم يبق أحد من أميركا وبريطانيا وفرنسا ذهبوا إلى مجلس الأمن.. إلى مجلس حقوق الإنسان إلى أصغر منظمة أجنبية، إلا وغمس يديه في دم الشعب السوري البريء، من خلال التنظير على المنابر الإعلامية حول شجب ما يسمونه بالعنف الذي يزعمون كذباً بأن السلطات السورية تمارسه بحق المتظاهرين، أو المطالبة بتشكيل لجان تحقيق على مستوى مجلس الأمن، والمحاكم الدولية، وصولاً إلى الدعوات المباشرة للدول الغربية للتدخل لحماية الشعب السوري.
وقد كثرت من أجل ذلك قطعان النشطاء الحقوقيين والمحللين السياسيين والمعلقين في وسائل الإعلام الغربية التي عُرفت بمعاداة مصالح العرب في التحرر والوحدة والكرامة، أو في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، والتي انقلبت على مبادئها تبعاً لإرادة الأجندات الغربية.
وجميعهم متشابهون في صياغة خطابات تحريضية عبر تضخيم حدثٍ من هنا واصطناع حدث من هناك، مع تجاهل لحقيقة ما يجري، وعزف جماعي على أوتار الفتنة الطائفية.
يريدون عبر التركيز على التظاهرات الملفقة، إشاعة الانطباع بأن الشعب السوري يرفع شعار إسقاط النظام، علماً بأن هذا غير صحيح، لأن تظاهرات مليونية خرجت منذ بداية الأزمة للتعبير عن تأييدها للنظام وتمسكها بالرئيس بشار الأسد واستعدادها للتلاحم معه والدفاع عنه.
فالمشكلة ليست مشكلة تظاهرات، أو خلاف بين الشعب والنظام، لأن القيادة السياسية في سوريا، ممثَّلة بالرئيس بشار الأسد، على قدرٍ عالٍ من المسؤولية والحكمة في التعامل مع الشعب.
لكن المشكلة الحقيقية هي في استغلال التجمعات السلمية من قبل جماعات إرهابية مسلحة تطلق النار على رجال الأمن وأفراد الجيش من جهة حتى تحاول استفزازهم، ومن جهة أخرى تطلق النار على المدنيين الأبرياء لتلتصق التهمة بالنظام وأجهزته الأمنية، وليصبح بإمكان الأعداء والعملاء أن يلعبوا دورهم القذر على وسائل الإعلام المغرضة.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن هناك مجموعات سلفية تكفيرية متعددة المشارب وممولة من السعودية الوهابية ومن قطر تتحدث باسم الدين، وتنادي لإقامة دولة الخلافة، وتنادي بحمل السلاح في الشوارع، وبقتل كل مَن لا يخرج إلى التظاهرات من المواطنين الأبرياء، وبقتل أفراد الجيش ورجال الأمن الذين مهمتهم الحفاظ على أمن المواطنين.
وقد قام أفراد هذه الجماعات بعمليات تخريبية قصداً، فأحرقوا مركز مكافحة المخدرات والقصر العدلي في درعا، وممتلكات عامة وخاصة في مختلف المحافظات، كما أحرقوا المشافي والمستوصفات وسيارات الإسعاف.
وكان لهذه الجماعات تاريخ طويل في التخريب والفوضى والقتل والذبح للأبرياء في كل مكان يحل فيه أفرادها، فتاريخها معروف بقتل الشيوخ وذبح الأطفال وتدمير المناطق وتفجير المباني، وهنا لا بد من التذكير بمجازر جماعة الإخوان التكفيرية في دمشق وحلب وحماه وإدلب واللاذقية، كمجزرة مدرسة المدفعية، والباصات التي تم تفجيرها، وأصحاب الأدمغة الذين تم اغتيالهم و... إلخ.
لقد أصبحت هذه الجماعات مكشوفة من قبل جميع الدول والشعوب، فرفضت معظم الدول أن تستقبل هذه الجماعات، أو أن تسمح لتنظيماتها بالعمل ضمن مؤسساتها، باستثناء بعض الدول الراعية للإرهاب.
ومن أهم الدول الراعية للإرهاب في العالم أميركا، حيث أنه من المعروف أن أميركا صنعت زعيم القاعدة الإرهابي (أسامة بن لادن)، وهي الآن تستخدم الإرهاب في سوريا تحت شعار المطالبة بالإصلاح في محاولةٍ لإخضاعها للقبول بشروط الغرب التي تخدم "إسرائيل" في النهاية، وقد جاهر الإسرائيليون في الأيام الماضية بأنهم يراهنون على استنزاف سوريا وإخضاعها لشروطهم بنتيجة ما يجري على أرضها من أحداث.
فقد كتب أليكس فيشمان في صحيفة يديعوت أحرونوت مقالاً تحت عنوان: "المصلحة الوحيدة التي توجه اليوم السلوك الإسرائيلي في كل الساحات تقول: إذا كان ما يحصل في سوريا سيضعف في نهاية المطاف محور دمشق - إيران - "حزب الله"، فذلك خير".
كما أعرب الناطق بلسان رئيس الحكومة الإسرائيلية، أوفير غندلمان، عن أمله بسقوط النظام السوري وتمدد التغيير في العالم العربي نحو دمشق، متمنّياً أن يتحرك السوريون ضد نظامهم "الذي لا يريد السلام مع "إسرائيل"". وأشار غندلمان في حديث إلى الفضائية الإسرائيلية بقوله: "إسرائيل" تتطلع إلى تغيير النظام السوري، لأن هذا النظام لا يستطيع التوصل إلى سلام مع الدولة العبرية.
إن العملاء الخونة يريدون أن يحققوا الحلم الذي عجزت كل من أميركا و"إسرائيل" عن تحقيقه، وهو سقوط النظام في سوريا.
لا لشيء إلا لأن النظام السوري له سياسته في الممانعة ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين التي هي قضية العرب المركزية، فالنظام السوري هو الوحيد الذي عطَّل عمليات الاستسلام وأسهم في إبقاء قضية فلسطين حية، إضافة إلى دوره الحقيقي في إدخال "إسرائيل" في مرحلة الانهيار بعد أن تحطمت أسطورة جيشها الذي لا يقهر في لبنان وغزة.
وقد ذكرت دراسة للمخابرات الإسرائيلية "شاباك" أن فك علاقة سوريا بقوى المقاومة والتحالف مع إيران كفيلان بعودة الاستقرار لسوريا دون أن تقول: كيف؟ فكانت الرسالة التي تقول: "إن المطلوب من سوريا تنفيذ هذه الشروط و"إسرائيل" تتكفل بوقف الأحداث"، وتعني بذلك أنها تمسك من وراء الستار بدفة القوى التي تحرك الأحداث، أو أن القوى الواقفة وراء الأحداث ترتبط مع "إسرائيل" بالتزامات مفادها الدعم مقابل التعهد بالخروج من الصراع مع "إسرائيل"، وفي الحالتين تبدو "إسرائيل" من يملك كلمة السر في هذا التخريب الذي تشهده سوريا.
وقد ثبت بالدليل القطعي أن هنالك أيد خارجية قريبة وبعيدة تعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا، فقد تم ضبط شحنات أسلحة على الحدود السورية مع البلدان المجاورة، وتم الكشف عن مبالغ مالية ضخمة دفعت لخدمة هذه الغاية إلى جهات وظيفتها تخريب سوريا.
كما بات من المعلوم لدى الجميع أن واشنطن قد اعترفت بأنها دعمت بالمال من تسمِّيهم بالمعارضين السوريين، وأن أميركا مع الحلف الأطلسي والموساد الإسرائيلي وأجهزة استخبارات عربية، تدرِّبُ في بلدان عربية وبعض بلدان أوروبا الشرقية جماعات وظيفتها العمل على تخريب سوريا.
من جهة أخرى كان للسفير الفرنسي في بيروت "دوني بييتون" تصريحات مسبقة بأنّ الضغوط على دمشق ستزداد في الأيام المقبلة، وقد عبّر بييتون عن امتعاض بلاده من سياسة سوريا وقال حرفياً: "يئسنا من النظام في سوريا"، ولم يتردد بالإشارة إلى أن فرنسا شجعت المعارضين السوريين الموجودين على أراضيها، وأعطتهم حرية الحركة بالكامل دون ضوابط.
ولا يمكن إغفال الخطة الخبيثة لضابط الأمن السعودي بندر بن سلطان، والذي كان سفير السعودية في الولايات المتحدة الأميركية، والمعروف بخططه التي تصب في خدمة مصالح "إسرائيل"، والتي كشف عنها موقع فيلكا الاستخباراتي.
إن الشعب في سوريا يفهم تفاصيل هذه المؤامرة، لذلك فإنه لن يسمح بمرورها، خاصة بعد أن انكشفت الصورة بوضوح ولم يعد هناك التباس في الشكل والمضمون. ولن يقبل الشعب السوري العظيم إلا القائد العظيم بشار الأسد ليكون رئيساً له، وقد بات من المعروف الرصيد الشعبي الكبير للرئيس بشار الأسد، ليس في سوريا فحسب، بل في العالم العربي، وما يؤكد ذلك استطلاعات الرأي الشهيرة التي أجرتها أكثر من مؤسسة أبحاث أميركية وأوروبية والتي أعطته على الدوام مرتبة متقدمة لدى الرأي العام العربي، ونتائج هذه الاستطلاعات نُشرت في الصحف العالمية.
ستكون هزيمة أميركا في الصراع السوري جزءاً أساسياً في حملة انتخابات الرئاسة الأميركية بمضمونها الأميركي والإسرائيلي على حد سواء طوال الأشهر الباقية على موعدها. يتقدم على كل الموضوعات في هذه الحملة ما إذا كانت أميركا و"إسرائيل" تستطيعان الرد على هذه الهزيمة بهجمة عسكرية على إيران.
إعداد: لميس داغر