"الربيع العربي" ضد القضية الفلسطينية
لا يمل النظام الرسمي العربي في معظمه من تناول القضية الفلسطينية على أنها قضية العرب الكبرى وأم القضايا، وهذا الأمر صحيح للغاية وهو عين الحقيقة، ولكن ماذا فعل النظام الرسمي العربي لترجمة الأقوال الى أفعال ملموسة؟ بالتأكيد، لا شيء إطلاقاً، وفي المحصلة، تراجعت القضية الفلسطينية تدريجياً في سلم الأولويات لدى الرأي العام العالمي، لأن " العرب" لم يقدموا ما يجب تقديمه من أجل أن تبقى القضية في سلم الأولويات وهانوا وسهل عليهم الهوان، وبات الشعب الفلسطيني يدفع الثمن أضعافاً مضاعفة من لحمه الحي ويتعرض لأبشع هجمة صهيونية تحاول أن تطال وجوده وذلك بفعل حملة التهويد الواسعة التي تطال الأرض والمعالم وتزوير التاريخ والحقائق والعدوان الصهيوني المتواصل الذي يطال الشجر والبشر والحجر والمقدسات.
لقد فرط النظام الرسمي العربي بقضايا الأمة وثرواتها وتآمر على القضية الفلسطينية وشارك في الضغط على قياداتها لإجبارها على التنازل والقبول بشرعية الدول الاستعمارية التي زرعت الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، تلك الدول التي ترى في "إسرائيل" رأس حربة في المنطقة وحارساً لمصالح الدول الاستعمارية.
القضية الفلسطينية لم تعد قضية النظام الرسمي العربي الذي باعها منذ زمن طويل، ويتباكى على مقدساتها ويتستر بها كقضية حق وعدل ولا يفعل ما يجب فعله لمساندة الشعب الفلسطيني وكفاحه الطويل من أجل تحرير الأرض وعودة الشعب الى أرضه، بل ذهب النظام الرسمي العربي بعيداً في خداعه لجماهير الأمة العربية من خلال قبوله بالاتفاقيات والمعاهدات المذلة تحت لافتة السلام وفي المضمون كان هناك استسلامه وعجزه في ترجمة تطلعات الجماهير نحو الحرية والتحرر والكرامة الوطنية والقومية.
وفي زمن ما يسمى زوراً "ثورات" أو "ربيع عربي" لم يتبدل الحال بما هو أحسن وأقوَم، وما كان منجزاً من تلك الثورات إلا سراباً وخداعاً جديداً لتطلعات الجماهير العربية ولافتة جديدة لعهد جديد يحل محل القديم الذي تمّ استهلاكه واقتضى واقع الحال استبداله بشعارات تحت عناوين الديمقراطية وما هناك من سلع الغرب وأحابيل الدول الاستعمارية.
لم يتبدل الحال الى حال أفضل وبالعكس تماماً، تم وأد تطلعات الشعب العربي وذهب الحكام الجدد خانعين لأعتاب البيت الأبيض لاسترضائه ونيل رضاه وقبولهم بكل ما يحقق الأمن والطمأنينة للكيان الصهيوني.
لقد فقد الشعب الفلسطيني أحد حلقات القوة المفترضة والمساندة لكفاحه منذ اتفاقيات كامب ديفيد المشؤومة التي عزلت مصر بما تمثله من قوة ومكانة وشعب عظيم، وتمّ إضعاف الشعب الفلسطيني ومحاصرة قواه الوطنية وضربها والتآمر عليها، مما سمح للكيان الصهيوني في توجيه ضربات قوية لقوى المقاومة الفلسطينية، وما كان من القيادة الفلسطينية المتنفذة إلا القبول بالمشاريع المستوردة ووعودها وكان الهدف من وراء ذلك كسب الوقت من قبل العدو الصهيوني وتركه يفرض وقائع جديدة على الأرض.
لم تعد هناك سلطة فلسطينية حقيقية وباتت السلطات بأكمها بيد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد هناك "حل الدولتين" ومثل هذا أصبح من الماضي، وأصبحت المفاوضات هدفاُ بحد ذاتها، ولا تمل السلطة الفلسطينية من الحديث عن معاركها السياسية، في السعي الى الحصول على اعترافات "صورية" بالدولة الفلسطينية، على اعتبار أنها مكاسب سياسية، أو ورقة ضغط تستطيع استخدامها لإقناع "إسرائيل" بالعودة الى طاولة المفاوضات، وتتجاهل السلطة أن ملفها في الجمعية العامة ليس كاملاً أصلاً، فهي دولة بلا حدود ولا مؤسسات ولا جيش ولا حتى سلاح.
وبعد عام على تقديم الطلب (المرفوض مسبقاً) لعضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، عادت السلطة الفلسطينية وتنازلت أكثر لتطلب الحصول على صفة دولة غير عضو في الجمعية العامة، الأمر الذي تتوقع السلطة الفلسطينية "إنجازه" بالحصول على دعم غالبية الدول الأعضاء.
المشكلة الأساسية هي اتفاق أوسلو الذي "خلق للسلطة الفلسطينية وهم دولة وسلطة" وبالتالي فإن الحل الوحيد هو إعادة فلسطين الى قضية تحرر وطني، فالشعب الفلسطيني مازال واقعاً تحت سقف الاحتلال، والهدف الكفاحي لا يتحقق عن طريق أوسلو والمفاوضات على طريق المرجعية الأميركية.
وفي زمن ما يسمى "الربيع العربي" لم يعد للمصالحة الفلسطينية من حاجة، هذا من الناحية العملية وخاصة بعد أن تبدّلت المعادلات الداخلية، والسؤال الآن مصالحة من؟ ومع من؟ وما هي الأسس التي ستقدم عليها تلك المصالحة المفترضة؟ لأن طرفي المصالحة، أصبحا يتنافسان لتقاسم السلطة والمكاسب والمغانم: حركة "حماس" في قطاع غزة وحركة فتح والسلطة الفلسطينية التي جاءت باتفاق أوسلو في الضفة الغربية، والعدو أخذ من أوسلو شرعية استمرار الاستيطان بغطاء من المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا زعيمة دول الغرب الاستعماري، وما قيل عن حل الدولتين كان مجرد كلام هدفه الاستهلاك، وتحولت الضفة الى معازل وجزر محاطة بالمستوطنات الإسرائيلية من كل جانب، والعدو الإسرائيلي بدأ بوضع الخطط للتخلص من السلطة الفلسطينية بعد أن استنزف كل إمكانياتها وأفرغها من محتواها.
وبدأ العدو الصهيوني يطوي صفحة جديدة بعد أن حقق المكاسب، وهو اليوم يغير قواعد اللعبة من خلال تصعيد هجماته ضد قطاع غزة، وتصاعدت هجماته وتهديداته رغم حساسية الوضع الإقليمي، وبعد إرسال طائرة الاستطلاع "أيوب" كان هناك نقطة تحول جديدة، هذه الخطوة خلقت نوعاً من توازن الردع الذي يحول دون إسراع "إسرائيل" في الضغط على الزناد، وأن تعبير "كي الوعي" الذي كان يستخدمه العدو، ينطبق اليوم على القيادة الإسرائيلية.
فقد احترقت أصابع الإسرائيليين في حرب 2006 وهو ما يجعلهم يترددون حتى في إطلاق التهديدات الفعلية. ومحاولة نتنياهو تركيز الأنظار على الأرض وإبعادها عن الاقتصاد، وربما التسخين الأخير في قطاع غزة يدخل في سياق التطلعات لإبراز جدول الأعمال الأمني على حساب الاقتصادي الداخلي، خصوصاً بعد تراجع الحديث عن الخطر النووي الإيراني والضربة العسكرية الإسرائيلية. ويبلغ القلق الرسمي لـ "إسرائيل" مداه من الأزمة الاقتصادية في ظل الظروف السياسية الراهنة، ومن هنا دعا نتنياهو لإجراء انتخابات نيابية جديدة في كانون الثاني القادم بسبب العجز عن إقرار الميزانية العامة للعام المقبل في الولاية الحالية للكنيست، فمتطلبات القوى الإئتلافية أكبر من الاستيعاب في ظل تراجع الاقتصاد الإسرائيلي عموماً، وهذا ما يلفت الانتياه الى حقيقة الكيان ومدى حصانته في مواجهة الأزمة العالمية.
أما عن زيارة أمير قطر "الشيخ حمد" الى قطاع غزة، فهي مسألة لا تخرج بعيداً عن لوحة "تبييض السياسة"، فهو بعد دوره في الأحداث وأعمال التخريب في عالمنا العربي في ليبيا وسوريا وقيامه بدور الوكيل لتنفيذ أجندات الدول الاستعمارية ومشاريعها مثل عملية التفتيت الجارية تحت مسميات واهية، وماهية الزيارة في حقيقة الأمر هدفها تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي بأدوات "عربية".
جاء حمد الى غزة بذريعة إعادة إعمار غزة، وتزامنت هذه الزيارة مع قيام العدو الصهيوني بتنفيذ عدة غارات كان هدفها إرسال رسائل جديدة تقول: إن حمد حضر الى قطاع غزة من أجل تطويع حركة "حماس" نهائياً وإقناعها بقبول شروط الرباعية من أجل تسويقها كسلطة جديدة إئتلافية تحت عنوان المصالحة وهذه الخطوة ما هي إلاّ مجرّد خطوة لإدخال القضية الفلسطينية في نفق جديد.
محمود صالح