شهادة المناضل العربي الفلسطيني "أحمد حسين اليماني -- أبو ماهر" مأخوذة من كتاب أديب قعوار: "شهادات لمقتلعين
فلسطينيين"
أحمد حسين اليماني*(أبو ماهر)
أبو ماهر اليماني إنسان لا يكل ولا يتعب، إنسان من طينة خاصة قلَ مثيله في النضال والتخطيط لاستعادة الأرض السليبة والدفاع عن كرامة الإنسان العربي
ووحدته وحريته
الولادة: 1924
مكان الولادة: سحماتا / الجليل
الاقامة الحالية: بيروت / لبنان
س. حدثنا عن الأيام أو الأسابيع الأخيرة قبل الاجتياح الصهيوني للجليل.
ج. بلغت اللجنة المركزية دعوة من قيادة جيش الانقاذ في بنت جبيل، القريبة من الحدود اللبنانية الفلسطينية، للقاء عدد من القادة العرب اللذين وصلوا إلى جنوب لبنان من الأقطار العربية على رأس جماعات من المتطوعين العرب، وكان في طليعتهم أكرم الحوراني (سوريا) وأجمد حسين (رئيس خزب مصر الفتاة) برفقة زملائه في قيادة الحزب، أديب لأبشيشكلي، خليل الكلاس، العقيد مدلول عباس، العقيد مهدي صالح والدكتور أمين رويحة.
رحب أعضاء اللجنة المركزية بالقادة والمناضلين العرب، وحددوا بالتعاون مع قيادة جيش الانقاذ المواقع التي سيتمركز فيها المناضلون العرب. وقد بينا لهم المجالات التي سيساهم فيها الأهالي في المجهود الحربي. عدنا برفقة القادة الميدانيين العرب: العقيد مهدي صالح وألعقيد مدلول عباس وهما صلة الوصل مع قيادة جيش الانقذ في قريتي بنت جبيل وعيثرون في لألجنوب لأللبناني.
س. هل كان هناك تعاون بين المقاومة الفلسطينية وأهالي الجنوب اللبناني؟
ج. أثناء زيارتنا إلى بنت جبيل تعرفنا على أهالي المنطقة من عائلات بزي، بيضون، شرارة والزين وغيرهم الذين قدموا ما باستطاعتهم أثناء القتال مع العدو الصهيوني وبعد النزوح لأهالينا المشردين من أرضهم وطيلة وجودهم في جبل عامل.
س. هل وصلتكم نجدات من مناطق عربية أخرى؟
ج. العقيد يوسف كمال (رئيس اللجنة العسكرية) يرافقة قائد الكتيبة شكيب وهاب، وبعض قادتها بجولة في المنطقة لتحديد المواقع الملائمة لتمركزها ومنها: بيت جن، الرامة، كسرى وشفاعمر. وبعد دراسة ميدانية للمناطق قرر القادة التمركز في منطقة شفاعمر بالقري من حيفا. أستقبل الوفد القيادي بفرح من قبل الأهالي وانضم الكثيرون منهم إلى صفوفها للمشاركة في القتال وخصوصا في مجال رصدهم تحركات العدو الصهيوني في المستعمرات المنتشرة في تلك المنطقة ومنها كفر آتا، بيالك، موتسكين التي يعرفونها جيدا.
س. ما هو الدور الذي لعبتهقيادة اللجنة المركزية؟
ج. من أهم المشاكل التي واجهتنا في مقاومة الغزو الصهيوني هو الشح في الامكانيات المادية والسلاح والزخيرة، إلى قصر المدة الفاصلة بين انتهاء الأنتداب البريطاني وبدء المعركة الحاسمة. فكما هو معروف كانت سلطات الانتداب تمنع لا بل تقاوم بكل قوة وبطش تملك العرب الفلسطينيين للسلاح والتدرب عليه، بينما كانت تسلح وتدرب العدو لمساعدته على الاستيلاء على فلسطين.
قدمت اللجان المحلية واللجنة المركزية واللجان المتفرعة عنها خدمات للمواطنين بحيث أمنت لهم حاجياتهم الأساسية من لبنان، تنظيم الحراسات المحلية، والمشاركة في المعارك ضد العدو الصهيوني إلى مهاجمة بعض المستعمرات الصهيونية القريبة من الحدود اللبنانية، كماأمنت المساعدة للأهل المشردين من قرى قضائي الناصرة وطبرية كتأمين المأوى والطعام والماء خصوصا هؤلاء المشردين باتجاه لبنان. هذا، كما قامت اللجنة بحل المنازعات بين المواطنين وقد تولى ذلك المحامي جميل حميد المسؤول عن اللجنة القضائية هذه المهمة.
س. هل حدثت تجاوزات من قبل بعض المواطنين الفلسطينيين العرب ابان المعركة مع العدو الصهيوني؟
ج. في أحد الأيام حضر إلى مقر اللجنة المركزية لمنطقة الجليل في ترشيحا المدعو الشيخ جبر الداهش من قرية بركا برفقة صديقين له، وادعى أن شريكا بدويا له بعدد من رؤوس الماشية أخذ حصته من البقر والماعز وفر بها، وطلب تصريحاً للحاق به. وقد تنبهت إلى أن المذكور كان يحضر لعملية لتهريب الماشية إلى المناطق التي احتلها العدو. وقد نسقنا مع مقر قيادة العقيد مهدي صالح لافشال عملية التهريب هذه، وقد تم لنا ذلك، اذ أن جهاز معلومات جيش الانقاذ كانت لديه معلومات معينة حول أوضاع الشيخ جبر وعلاقاته مع العدو. ومن المعلوم أنه أصبح لاحقا عضواً في الكنيست عن حزب العمل الصهيوني.
س. كيف تعاملتم مع جيش الانقاذ؟
ج. طلب العقيد مهدي صالح منا، نحن أعضاء اللجنة المركزية، التوجه إلى الرامه لمقابلة العقيد عباس قائد فوج حطين، حيث اجتمعنا به في منزل الأب الخوري يعقوب الحنا، وطلب منا ما ملخصه:
1- امكانية التحاق عدد من المقاتلين المحليين، بقوات فوج حطين، المنتشرة في مواقع متعددة مقابل المستعمرات الصهيونية ومنها العفولة ونهلال.
2- المساهمة بنقل الجرحى إلى المستشفيات الميدانية في الرامة وترشيحا وعند اللزوم نقلهم إلى مستشفيات صيدا وصور... وطبعاً تعاونا في هذا المجال وأعربنا عن استعدادنا لكل ما يلزم لاغاثة المناضلين العرب اللذين جاؤوا للدفاع عنا وعن أرضنا.
عدنا إلى ترشيحا حيث بينا للعقيد مهدي صالح ما تم الاتفاق عليه مع العقيد عباس وبدأنا الاتصالات بحاميات القرى، وكانت حامية ترشيحا هي الأفضل تنطيما وتدريبا وتسليحا، التي أبدى قائدها المناضل محمد كمال السعيد آغا ومساعدوه كل الاستعداد للانضمام إلى فوج حطين.
وقبل أن يتوجه مقاتلو الحامية للاتحاق بفوج حطين انتشر خبر معركة الشجرة القرية القريبة من الناصرة، واصابة العقيد مدلول عباس بجروح خطيرة. كما استشهد مساعده أكرم الديري، واستشهد الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود في ميدان المعركة وهو يردد:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدى
قدرت خسائر فوج حطين بما لا يقل عن مائتين بين شهيد وجريح، وعند طلب العقيد صالح أوفدت قيادة جيش الانقاذ بعثة طبية برآسة الطبيب أمين رويحة التي عالجت الاصابات البسيطة في المستشفى الميداني ونقلت ذوي الاصابات الخطرة إلى مستشفيات صور وصيدا وبيروت ودمشق.
على أثر ذلك وصل المقدم أديب الشيشكلي إلى الرامة التي اتخذها مقراً له.
قامت القيادة بتصفية آثار معركة الشجرة ومن ثم وزع جيش الانقاذ والمقاتلين المحليين على قرى المنطقة ومنها: الرامة، المغار، ميرون، الأصفصاف، المالكية، قدس، مجد الكروم، شعب، سخنين، كفر مندا، كوكب، عيلبون، كفر عنان، السموعي، سعسع، سحماتا، ترشيحا ومعليا.
س. ما هي النتائج العكسية لمعركة الشجرة؟
ج. على اثر هذه المعركة والخسائر الكبيرة التي لحقت يجيش الانقاذ، ركز العدو الصهيوني على شفاعمر حيث اندفعت قواته البرية برفقة دباباته قادمة من مستعمرة "كفراتا"... وأعلنت اذاعته أن شفاعمر سقطت بدون قتال... ثم انطلقت قوات العدو نحو قرية صفورية القريبة من الناصرة، وكانت قوات جيش الانقاذ قد أنسحبت منها، تاركة فيها المقاتلين من أبناء القرية لوحدهم... مما سهل دخول العدو لها ومسحها،من الوجود، مثل الكثير من القرى الفلسطينية بعد أن نهب محتويات بيوتها.
س. لا شك أن ذلك عرض مدينة الناصرة للغزو الصهيوني، فما رأيكم؟
ج. كما قلنا انسحبت قوات جيش الانقاذ على أثر معركة الشجرة وسقوط شفا عمر مما مكن العدو من شن عدوانه على الناصرة، مركز لواء الجليل، وبدا تشريد الأهالي، لافراغ المنطقة من سكانها العرب واقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم وطردهم إلى لبنان لا يحملون سوى أطفالهم ومرضاهم وألعجزة وثيابهم التي على أكتافهم.
س. بالاضافة إلى النتائج العكسية التي خلفتها معركة الشجرة هل زاد سقوط الناصرة الحال سوأً؟
ج. مع الأسف نعم، فقد أثر ذلك على معنويات الأهالي في القرى التي لم تصلها القوات الصهيونية الغازية وخلق في نفوسهم اليأس ومن ثم الهلع. ومع ذلك واظبت اللجان المحلية تقديم ما يتوفر وتستطيع جمعه من الطعام والايواء.
س. وبالنسبة للجنة المركزية؟
ج. اجتمعت اللجنة واتخذت المقررات:
1- مطالبة الأهالي بالصمود في قراهم وعدم النزوح إلى لبنان أو غيره من الدول العربية حتى ولو أحتلها العدو، فهذا هدف ستراتيجي للعدو الصهيوني الذي يريد افراغ فلسطين من أهلها.
2- السماح للأهالي للخروج من قراهم نهاراً إلى الحقول وكروم الزيتون لحماية أنفسهم من غارات العدو الجوية.
3- تشديد الحراسة ليلاً وتشكيل دوريات المقاتلين.
4- تكليف العقيد يوسف كمال، الضابط السابق في قوات الحدود الفلسطينية - الأردنية، والمسؤول عن اللجنة العسكرية بوضع الترتيبات المتلائمة مع المجموعات العسكري المحلية وامكانياتها.
ولكن مع كل هذه الاجرائات والترتيبات التي زامنها وصول المواطنين المقتلعين من مدينة الناصرة وقراها، وانتشار أخبار المجازر الوحشية التي يقوم بها العدو، وما وصل من أخبار مجزرة دير ياسين، التي قامت الآلة الدعائية الصهيونية على نشرها لالقاء الفزع في نفوس المواطنين العرب ودفعهم للهرب، وقيام الطائرات الصهيونية بالاغارة على القرى، قام البعض فيها بالطلب من اللجنة المركزية السماح للنساء والأطفل بمغادة القرى، مع بقاء الرجال للدفع عنها.
س. هل وافقت اللجنة المركزية على هذا الطلب؟
ج. بالرغم من ضغوطات الوضع الميداني المتأزم، وضغوطات بعض الأهالي، فقد بقيت وبعض الأخوة في اللجنة، على قرارها بعدم السماح لأحد، بغض النظر عن السن والجنس، بالنزوح بل واظبنا على دفع الأهالي على الصمود في أرضهم، لا بل دعوناهم للتحدي والمواجهة. وكانت حجتنا أنه اذا سمحنا للنساء والأطفال بالنزوح، فسيقوم بعض الرجال عندما تشتد الأمور باللحاق بعوائلهم وبذا يحققون الهدف الصهيوني.
وقمنا بحملة توزيع بيانات مختصرة للأهالي نقول لهم فيها: ان الصهاينة يسعون لتشريد العرب، واغتصاب أرضهم، كي يتمكنوا من استيراد المزيد من الصهاينه ليحلوا مكانهم في بيوتهم وأراضيهم... اصمدوا في قراكم ولا تغادروها ابداً.
س. هل ساهمت أنت شخصياً بحمل السلاح والقتال؟
ج. بينما كان بعض أهالي قرية السميرية في طريقهم إلى لبنان اشترى والدي رشاش ستن من أحدهم بمبلغ ست جنيهات فلسطينية وسلمني اياه، محتفظا لنفسه بالبندقية القديمة التي كان قد اشتراها خلال ثورة 1936. والى جانب قيامي بمهمات أمانة سر اللجنة المركزية، كنت أساهم مع الأخ يوسف كمال بتعبئة المقاتلين، وتجميعهم وارسال النجدات التي يطلبها منا قادة قوات جيش الانقاذ. وتشجيعا للمقاتلين وشد هممهم، قمت بمرافقة المجموعات التي توجهت إلى قرية معليا، استعدادا لمهاجمة قلعة جدين التي كانت مركزاً لتجمع القوات الصهيونية بينما كانت تستعد لمهاجمة قرانا.
س. وماذا بالنسبة لأشقائك؟
ج. ما أن وصلنا إلى مركز التجمع الذي اعدته قيادة جيش الانقاذ في القرية حت وصل شقيقي هاني وهو بدون سلاح، وتقدم مني ملحا بأن أسلمه الستن ليحل محلي والا بقي في القرية أعزلا من السلاح، وقال لي من الأفضل أن تعود أنت إلى مركزك ومهمتك في اللجنة المركزية. عند الحاحه ونزولاً عند استعداده للتضحية بالرغم من صغر سنه سلمته الرشاش وعدت إلى ترشيحا.
س. لا شك بأنكم فكرتم بالوضع الأسوأ، فهل قمتم بالاستعداد لذلك؟
ج. أستمرت هجمات العدو وغاراته الجوية على قريتي معليا وترشيحا، وكنت في ذلك الصباح في سحماتا، فتوجهت مباشرة مع الأخ فارس جميل عبد الطيف إلى ترشيحا، وقبل وصولنا اليها أغارت الطائرات الصهيونية على أطراف للقرية، ومع ذلك تابعنا السير حتى وصولنا إلى مقر اللجنة المركزية، وباشرنا على الفور بتجميع الأوراق والمستندات وألتقارير وأحرقناها جميعا كي لا تقع في أيدي العدو فيما لو احتل القية والمركز.
بعد الانتهاء من حرق الأرشيف قررت أن أتوجه إلى مقر العقيد مهدي، وبينما نحن في الطريق اليه اغارت الطائرات الصهيونية مجددًا وبشدة على مدخل قريتي ترشيحا ومعليا وكذلك على قريتنا.
عند وصولنا إلى المركز وجدنا معه الدكتور أمين رويحة، سألنه عن تقديره للموقف، ولا أزال أذكر ما قاله جيدا: "اذا استمراللقصف الجوي والمدفعي، علينا أن نتوقع هجوما شاملاً على المنطقة، انهم يستهدفون تدمير قواتنا، وتشتيت تجمعاتنا القتالية. ساتابع الاتصالات مع مقر القائد العام فوزي القوقجي في عين ابل (لبنان) وسنبقى على اتصال بكم عند أي جديد، الدكتور رويحة وأنا نبحث في نقل المستشفى العسكري الميداني إلى قرية حرفيش الواقعة خلف خطوط المواجهة.
س. هل قام العدو بمجازر في ترشيحا وغيرها من القرى؟
ج. تركنا العقيد والطبيب يتابعان بحثهما بخصوص نقل المستشفى، وقمنا بجولة في أحياء ترشيحا... كانت المناظر مروعة مؤلمة: منازل باتت أنقاضا، نساء وأطفال، رجل عاد من نوبة الحراسة ليبحث عن زوجته واطفاله تحت الأنقاض، رجال يبكون أهلهم، طفل خرج من تحت الأنقض وحيدا ليبكي والدته واخوته الذين فقدهم تحتها، مواطنون يحملون بعض المتاع يهيمون على وجوههم طلبا للنجاة... بعض العجز يبكون خارج بيوتهم ولا يستطيعون السير.
س. ما كان تأثير الغارات الجوية الصهيونية على نتيجة المعركة في الجليل؟
ج. تتابعت الغارات الجوية على قرى المنطقة، مما أدى إلى نزوح كثيف للأهالي نحو الشمال في طريقها إلى لبنان، وراح الأهالي يغادرون منازلهم منهم من التجأ إلى كروم الزيتون والبعض الآخر إلى القرى الأكثر أمنا،أو بالأحرى، الأقل خطورة من قراهم والتي لم تصلها الغارات الأجوية بعد، أما البعض الآخر فكانوا يسيرون هائمين على وجوهم، ولم يأت المساء الا وكانت القرية شبه خالية من أهلها، أما أهلي فقد لجأوا إلى مغارة في كرم زيتون بالقرب من منزلنا.
أما جيش الانقاذ فقد نقل مقر قيادته والمستشفى العسكري إلى مواقع خلفية في الشمال الشرقي.
س. هل كان لكم دور فعال في حث المقاتلين على متابعة القتال والمقاومة بالرغم من تأزم الوضع الميداني؟
ج. ذهبت لتقصي الأخبار إلى الموقع الذي أقيم فيه جهاز الارسال التابع لجيش الانقاذ في بيت فهد أحمد مرة خارج القرية، وكان بادارة الفنيان محمود حسن ضاهر من دير القاسي وحمد حجو من القدس، خاصة أن محمود كان زميل دراسة في مدرسة ترشيحا، الذي راح يحدثني عن تدهور الأوضاع في ساحات القتال وعن طلبات النجدة التي لم تلبى. وبالرغم من الالحاح في الاستغاثة فقد كانت الأوامر تصدر للسرايا بالتراجع. فقد فتح العدو جبهة من الشرق واحتل قريتي الصفصاف والجش، وقد توجست القيادة أنه اذا استمر الاندفاع السريع لقواته أن تقطع الطريق أمام قواتنا المتواجدة في منطقة التلال المحيطة بترشيحا وسحماتا، ويتم القضاء عليها. وقال حمد بأنه يفكر بترك المركز لرفيقه محمود والذهاب إلى قريته، دير القاسي، ليعرف مصير عائلته. أجبته ماذا تستطيع أن تعمل لأهلك أكانوا أحياءً أم أمواتاً، أنت الان مقاتل في وسط المعركة، ولديك مسؤولية أساسية، أنت تقوم بتأمين الاتصالات بين القيادات المحلية والخلفية، اقتنع مني وبقي في موضعه إلى جانب زميله، وعند طلبه أحضرت لهما الطعام خصوصا أن سيارة التموين لم تمر في ذلك اليوم بموقعهما. وقد كان زميله قد ذهب في سيارة الاسعاف إلى قريته حرفيش وسيعود بعد قليل.
وأنا في طريقي لاحضار الطعام شنت طائرة عدوة غارة على موقع جهاز الارسال والطريق الرئيسة، عدت لأستطلع نتائج الغارة فاذا بي أرى الصديق محمود ممدداً حيث كنا نجلس فقد أصابته شظية ودمرت المنزل بما فيه. قام الأخ سعيد جميل قدورة بنقله إلى مستشفى الميدان في حرفوش، ومن هناك تم نقله إلى لبنان حيث توفي في بنت جبيل... رحمه الله فقد كان شهماً، ووفيًا ومخلصاً.
س. هل تجاوب معك أفراد عائلتك في نشاطك النضالي والتنظيمي؟
ج. بعد زيارتي لموقع الارسال عدت إلى المنزل لأجد أنه قد أصيب بقذيفة غارة جوية استهدفت القرية وأصيب مع غيره من البيوت المجاورة، ولكن من حسن الحظ كانت العائلة قد غادرته،فقد التجأت إلى المغارة القريبة كما سبق وذكرت. لحقت بهم وهناك أخذ والدي يحدثني عن ارادة الله، ووالدتي تشكر العناية الالاهية التي دفعتهم إلى مغادرة المنزل قبل حدوث الغارة.
طلب مني والدي أن أخرج معه من المغارة لأنه يريد أن يحدثني بامر هام، وعندما أصبحنا وحدنا قال لي:" والآن يا أحمد.. ما رأيك.. الا ترى بعينك قوافل المغادرين من أهل القرى المجاورة، وسيارات الجيش، حتى أن أهل قريتنا غادروها.. لماذا تعاند القدر يا بني.. ولماذا لا تفكر بالمستقبل؟ لماذا؟ لماذا؟..."
رحت أهدأ من روعه، وأطلب رضاه، ,أحاول اقناعه بأن جيش الانقاذ ما زال معنا.. والمدفعية جاهزة، والسيارات العسكريه تروح وتجيء حاملة الذخائر والنجدات... لماذا يا أبي الخوف، لماذا نترك بيوتنا، يجب أن نبقى مع الجيش فهو يحمينا ونحن ندعمه معنوياً، فلماذا نترك من جاء لنجدنا... و... ولما لم يجد مني استجابة لدعوته وبقيت على عنادي واصراري على الصمود، قال لي والدموع تغشى عينيه، قال الله يرضى عليكم يا بني ويحميكم.
انتقلنا معا إلى مكان مطل على الطريق الرئيسي، واذا برتل من الشاحنات العسكرية يقف بالقرب منا، فذهبنا نستطلع الأمر، وكان بين الموجودين الضابط أكرم الديري، الذي كان قد جرح في معركة الشجرة، اقتربنا منه، وبعد السلام واستطلاع الخبر، رد: "قررت القيادة نقل المدفعية إلى التلال القريبة من قرية فسوطة، باشمال من سحماتا، وسينقل مقر القيادة من ترشيحا، وربما اتحذنا من قريتكم محطة..." سالته اذا كان يريد مساعدة منا، اجاب بكلا فنحن بانتظار وصول بقية السيارات. عندها حاولت اقناع والدي، ونحن في طريقنا إلى المغارة، بأن لا داعي للقلق والياس، فهز برأسه، ولا أدري أكان اقتناعا بما سمعه من الضابط الديري، ومني أم استخفافاً.
س. ماذا استنتجدت أنت شخصياً من تحركات جيش الانقاذ؟
ج. عدنا إلى المغارة، وحدثت الأهل بما سمعناه، وبعدها عدت إلى الشارع الرئيسي، لأشاهد قوافل السيارات العسكرية تمر محملة إلى جهة الشرق، وبعضها قادم من هجد الكروم في طريقها إلى لبنان، حيث مقر قيادة جيش الانقاذ... أدركت أنها حركة انسحابية!!!
س. وماذا بعد؟
ج. عدت إلى المغارة حيث بادرني الوالد قائلاً: "أنا لم أصدق ما قاله لنا الضابط بأن المدفعية ستنتقل إلى تلال فسوطة وأن القيادة ستتخذ من قريتنا مقراً لها، الا ترى أن هناك حركة انسحابية؟ حاولت من جديد أن أقنعه بأن ما سمعناه صحيح، ولكن أخذ يساومني، قاال: "خذ أختك وأخيك الكبيرين وغادروا القرية، وابقى أنا مع أمك والصغار هنا". أجبته بشييء من العناد: "اعفني يا ابي من هذه المهمة. أنا سوف لن أغادر القرية بتاتاً... سأبقى لأموت فيها، وهذا آخر ما أقوله لك" ويبدو أن صوتي كان من الحدة والارتفاع ما به الكفاية بحيث خرجت والدتي وأخوتي لاستقصاء الأمر، وتابعت كلاامي بحدة متوجها إلى الجميع وقلت لهم: " اذا كنتم تريدون النجاة بأرواحكم فغادروا القرية واتركوني لوحدي، أما اذا شأتم الصمود والموت في أرضنا وقريتنا فلنبق معاً... فالإنسان يموت مرة واحدة... أذهبنا إلى لبنان أو سوريا... اننا سنموت في النهاية... وأنا أفضل أن أموت في سحماتا برصاصة عاجلة من عدو، خيراً من أن أموت بعيداً عن مهبط رأسي نادماً على ما اقدمت عليه".
هكذا أجبت والدي على مسمع من الاخوة، وكلهم لم يألفوا مني مثل هذا العناد من قبل، عندها لم يتمالك والدي نفسيهما فأجهشا بالبكاء.
وبالعناد ذاته رحت أخاطب أخواني: "الى أين ستذهبون وكيف ستعيشون؟ أنا زرت لبنان ووصلت صيدا، وقابلت المحافظ، ورأيت أحوال الذين فروا من فلسطين، وكيف يعيشون في الشوارع، فاذا كنم تصرون على ترك القرية... اتركوها، ولا تسألوا عني، فأنا لن أغادرها ما دمت حياً.
وعدت متوجهاً بالحديث إلى الوالدين: "اذا كانت قضية تدنيس العرض، وبقر بطون النساء، وتعريتهم هي التي تدفعكم لمغادره القرية صوناً للشرف، فانني أقول لكم: ها هو الشاش أمامنا، وبجانبه كمية من الرصاص.. فاذا اقتري العدو منا فلن أمكنه من أنفسنا.. أطلق عليكم الرصاص، والرصاصة الأخيرة مكانها صدري... فنموت شرفاء، ونستريح من مشاق الرحيل، وذل حياة التشرد والحرمان..."
سأل والدي: "ما رأيكم بما قاله أحمد؟" أجابته الوالدة: "كلنا نفضل الموت ولن نترك أحمد وحده"... بكيت وبكى الجميع... وسألني الوالد: "ما رايك لو نذهب إلى قرية كفر سميع، وهي قريبة من سحماتا، ويشاع أن اهلها لن يرحلوا، وهكذا نبقى جميعا في فلسطين بالقرب من قريتنا؟"
أجبته: "لا مانع طالما نبقى في فلسطين". وكان لوالدي معارف وأصدقاء من ال فلاح، ولي زميل دراسه منهم. قام والدي تواً وقال: " أذهب أنا وبعض اخوتك ومعنا بعض المتاع إلى كفر سميع، وتبقى أنت ووالدتك وأخيك الرضيع ريثما أعود اليكم، ونذهب جميعا ونستقر هناك، إلى أن يقضي الله الأمر".
س. هل تمكنتم من الوصول إلى كفر سميع؟
ج. عندما غادرنا الوالد والاخوة بدأنا نسمع دبابات العدو قادمة من اتجاه ترشيحا وهي تطلق مدافعها ورصاص رشاشاتها في الهواء ارهابا للمواطنين، فقد كان جيش الانقاذ قد أتم انسحابه من المنطقة. تاكدت عند ذلك صحة تقدير والدي بأن جيش الانقاذ سيغادر المنطقة!!!
لم يذهب والدي إلى كفر سميع، لأنه لم يرد أن يثقل على أصدقائه في هذه الظروف الصعبة، فقد أرسل لنا الشقيق هاني ليخبرنا بأنه ذهب إلى عين طريا حيث يوجدنبع ماء وبساتين بالقرب من قريتنا، ووالدي يعرف صاحب البستان ولديه بيت غير مأهول سنقيم فيه. وفي طريقنا إلى عين طرياأصيب أصبع قدم الشقيقة هنية بشظية من رصاصة طائشة كانت قوات العدو تطلقها عشوائياً. وبعد أن وصلنا إلى العين منهكين، استأذنت والدي بأن اذهب إلى قرية البقيعة لمقابلة العقيد يوسف كمال، عضو اللجنة المركزية لمنطقة الجليل لنتدارس الأمر، وكان يتواجد في البيت الواقع في مدخل القرية عدد من وجهاء البقيعة وسحماتا يتدارسون األموقف الذي سيتخذونه عند وصول القوات الصهيونية إلى المنطقة.
س. ضمن هذه الظروف القاسية هل قرر المجتمعون النزوح؟
ج. افتتح العقيد يوسف كمال الجلسة قائلاً: "نحن كلجنة مركزية لم نعد قادرين على فعل أي شيء لحماية المواطنين، فقد قرر جيش الانقذ الانسحاب من المنطقة. واالعدو يملك كل الامكانات، ونحن عاجزون عن المقاومة، وكل ما يمكننا صنعه هو البقاء في منازلنا، وانصح الجميع أن يحافظوا على الهدوء، وأن لا يقدم على عمل يعرض القرى للانتقام".
قرر الجميع عدم النزوح بل نصمد في بيوتنا.
على الأثر انفض الاجتماع، واتفقنا نحن أبناء سحماتا على العودة اليها. وأذكر منهم: حسن أيوب، كامل سليم سمعان، فهد عيد سمعان، عاطف الجشي، علي محمد عزام، مصطفى محمد الحجار، يوسف حمادة، علي سليمان، عبد الرحمن حسين قدورة وخالد محمد حسن قدورة.
كم كان مؤلما مشاهدة قطع القماش البيضاء ترفرف على أسطحة منازل البقيعة، قبل أن يصل اليها العدو حتى لا يدمرها كما كان الناس يتخوفون.
وصلنا إلى القرية ليلاً، وكان الاتفاق أن نلتقي عند الصباح مع من لا يزال فيها لتقرير ما علينا فعله. ولكنه تبين لنا أن العدو قد دخلها من الجهتين الشرقية والغربية، وأخذ يداهم البيوت الخالية بحثا عن السلاح. ومع مطلع الفجر بدأت قوات العدو تذيع بمكبر الصوت داعية الجميع للتجمع في ساحة القرية. لأن الجيش سيقوم بالتفتيش، وسيعدم كل من من يكتشف في بيته ويهدم البيت. اجتمع الجميع في الساحة بينما الجنود يحاصرونها.
سأل قائد المجموعة عن المختار فقيل له أنه ذهب وعائلته إلى كرم الزيتون، واشاروا إلى شقيق المختار، أحمد صالح قدورة، فامره أن يذهب ليفتح لهم باب الديوان، ولما وجدوه مغلقاً كسروا الباب وقام بالتفتيش. وخاطبنا قائد المجموعة نريد الأسلحة التي كان يملكها أهل القرية، واستعملوها لقتالنا، نحن نعرف بأنكم اشتركتم بالهجوم على نهاريا وحانيتا وجدين، واذا لم نستلم الأسلحة خلال ساعة فستموتون جميعاً، ونهدم القرية على رؤوسكم.
تقدم مني قائد المجموعة، وكنت أصغر الجميع سناً، وسالني عن السلاح الذي كان معي وكنت أقاتل به. أجبته: "كلنا لانملك الاسلحة حتى نسلمكم اياها". لطمني على وجهي وشتمني ,أسكتني وراح يسأل كل من الموجودين السؤال ذاته، وجميعهم كرروا جوابي له، وكل ما نعرفه أن القوات كانت متمركزة في ترشيحا وانسحبت.
س. ماذا تم معكم في الأسر؟
ج. اختار قائد المجموعة كل من الحاج هاشم قدورة وخالد محمود قدورة وأنا، وخاطب الباقين قائلاً: "أنتم تبقون تحت الحراسة، وهؤلاء نأخذهم رهائن حتى نعود، واذا سمعنا طلقة رصاص واحدة فسيعدمكم الجنود وأنا ساعدم هؤلاء". لقد استعملونا كدروع بشرية. أجلسوا كل منا على مقدمة دبابة، وقيدونا بالحبال وسار رتل الدبابات وتلك التي وضعونا عليها سارت في المقدمة، وسرنا باتجاه قرية البقيعة، وقبل وصولنا اليها التقينا بمجموعات من أهلها يسيرون باتجاه رتل الدبابت وهم يحملون الرايات البيضاء.
ترجل قائد المجموعة، وتقدم منهم والجنود يحيطون بهم، ثم عاد الجميع إلى بيت العقيد يوسف كمال حيث عقدوا اجتماعاً، ونحن مكبلين في أماكننا والحبال تحز في جلودنا وتكاد تكثر عظامنا. ولم ندر ما دار في الأجتماع، ولكننا كنا نسمع بعض أهل القرية يقولون عن الضابط الصهيوني أنه "ابراهيم هلال".
س. من هو ابراهيم هلال هذا؟
ج. ابراهيم هلال هو أحد سكان ثلاثة بيوت يسكنها يهود بشكل عادي حتى ثورة 1936، وهم بالاضافة إلى ابراهيم هلال حزقين و برام. وكان حزقين وبرام يتعاطون مهنة صناعة الألبان. أما ابراهيم فقد أعلن اسلامه وراح يهاجم اليهود والصهاينة الذين تجلبهم الوكالة اليهودية. ولكن أخباره انقطعت فجأة، وكاد أهل القرية ينسونه، حتى ظهر بينهم قائدا من قادة العدو الصهيوني ويدخل قريته "فاتحاً"!!! وشاع أمره بين أهل القرية. عاد قسم من القافلة إلى سحماتا والقسم الآخر ذهب إلى ترشيحا، وعند وصولنا إلى الساحة فكوا قيودنا وأنزلونا عن الدبابات وحجزونا في دكان أحمد عبد القادر حتى الصباح.
س. ماذا صنع الصهاينة بالنسبة لبيوت الأهالي والمواطنين العرب؟
ج. جال جنود الاحتلال على بيوت القرية وفتشوا كل منها مقتادين كل من يجدونه من نساء ورجال وجمعونا في منزل عبد الوهاب سلمون القائم على طرف ساحة القرية، وفي الصباح ضموا المعتقلين الجدد الينا. وكان بين هؤلاء والدي وشقيقي هاني. وبينما أنا وهاني واقفان تقدم منا رقيب عسكري يهودي تعرفت عليه على الفور، اذ كان زميل لي عندما كنت أعمل في دائرة الأشغال في حيفا، وهو يوسف يعقوب بيسفي، وكان يعرف أني تركت العمل في الدائرة والتحقت في جمعية العمال الفلسطينية. وبينما كان يوسف يتحدث الي استدعاه أحد ضباط العدو ودار بينهما حديث قصيرتوجه الضابط نحوي ولطمني على وجهي مكيلا لي السباب والشتائم. وأمر أحد الجنود أن يقتادنا إلى مكان قريب حيث فتشنا بدقة بعد أن أرغمنا على خلع ملابسنا وأخذ ساعتي وقلم الحبر وما وجده من مال في حافظة نقودي، واوثقنا إلى شجرة زيتون بشدة بحيث حزت الحبال فيي جلودنا. ثم أمرنا برفع أيدينا، فبتنا كمصلوبين عاجزين عن الحركة، ثم انهال علينا بالشتائم والضرب... ثم قال لنا بعربية ركيكة: "صلوا صلاة الموت يا أبناء ال..."
س. هل تابع جنود العدو التحقيق معكم وكيف؟
ج. بعد الوجبة الصباحية من التعذيب والشتائم والاسفاف نقلاانا إلى المدرسة حيث مقر الضابط الذي أمر باخراج الموجودين من الفلسطينيين وبدأ التحقيق معنا من جديد موجها لي الأسئلة مثل: لمذا تركت العمل في دائرة الأشغال، ماكانة مهمتي في جمعية العمال، وأين تدربت وعلى أي سلاح، وأين سلاحك. ولكان اجاباتي لم تمكنه من ادانتي بما يعتقد أنه خارج على قوانين احتلاله.
بعد ذلك استدعى شقيق المختار وكرر عليه الأسئلة التي سالني اياها وكانت أجوبة السيد قدورة مطابقة لأجوبتي، مما اسقط بيده. انتهى التحقيق معي وبدأ مع المواطني الآخرين.
س. هل اكتفى العدو الصهيوني بتجميع المواطنين والتحقيق معهم ثم تركهم لشأنهم في بيوتهم وقراهم؟
ج. قبل المغيب استدعي خمسة منا، محمد سعيد قدورة، حسن قدورة، خالد محمود قدورة، عبد الرحمن حسين قدورة وأنا، وأدخلونا إلى أحدى غرف المدرسة وأمر الجنود بطرد بقية المواطنين رجالا ونساء من القرية والوطن، وبدأ الجنود يتنفيذ المهمة مطلقين الرصاص فوق رؤوسهم ارهابا. وكان أحد الجنود يصرخ بالعربية قائلاً: "هيا، الحقوا بالقاوقجي... الحقوا بجيش الانقاذ... اذهبوا إلى لبنان... اياكم أن تعودوا... وسنقتل كل من يحاول العودة منكم..." ومع هذا ادعى العدو الصهيوني بأن الفلسطينيين العرب هجروا أرضهم وبيوتهم طوعا وبملىء ارادتهم!!!
تشتت الأهل ودخلنا إلى عالم اللجوء... شردوا بالقوة الغاشمة والارهاب.
أما نحن الخمسة، فقد قال لنا الضابط: "لقد ابقيناكم هنا لتقوموا بخدمة الجنود وتسهروا على راحتهم، تجمعون الفراش والأغطية من البيوت، تجلبون الماء والحطب، تغسلون الأواني... أنتم خدام الجنود، أطيعوا الأوامر، واياكم أن تحاولوا الهروب".
س. ماذا صنع العدو بالبيوت المهجورة؟
ج. لم يمر سوى يومين حتى وصلت إلى القرية سيارة تكسي نزل منها مدنيين يهود، مع سيارات شحن نزل من احداها عمال عرب وبدؤوا بعملية نهب منظم لمحتويات البيوت، بالات التبغ،ألتي كانت سحماتا مشهورة بزراعتها، وكل ما يجدونه في البيوت من مواد غذائية: حبوب على أنواعها، وزيوت وما توفر من أدوات وفرش صوف... ويغادرون القرية بالمنهوبات... ومن ثم نسفت أكثرية أبنية القرية حتى لا يفكر الأهل بالعودة اليها...
س. كم وقع من شهداء من أهل القرية؟
ج. وقع عدد من الشهداء نتيجة للقصف الجوي واطلاق النار على العزل من أهل سحماتا ومنهم:
1- الشاب محمد عبد الرحمن حسين قدورة، أطلق الجنود عليه النار في الساحة أمام عيني والده وبعض أهالي القرية.
2- مصطفى علي قدورة وهو عائد مع بقراته من خارج القرية.
3- عبد الوهاب سلمون، شيخ طاعن في السن اغتاله الجنود داخل منزله
4- حسين موسى، قتل أمام منزله في الحارة الشرقية.
5- خليل سلوم، قتلوه في بيته وكان مريضاً.
6- عطا الله موسى، أصيب برصاصة وهو سائر في الطريق.
7- أحمد حمودة، أصيب بشظية.
8- خليل عبود، أحد أبناء قرية البقيعة، قتل بينما كان في زيارة خليل سلوم.
9- موزة موسى، زوجة أسعد نمر أصيبت بشظية خلال غارة جوية صهيونية وهي في منزلها.
10- سمية عامر، زوجة توفيق العبد علي قدورة قتلت في بيتها.
وهنا تبدأ مرحلة جديدة من الاعتقال فالتحقيق والتعذيب ومن ثم الاقتلاع فألطرد إلى لبنان
استمرت عملية النهب والسرقة في سحماتا أياما عديدة، كانت الشاحنات تأتي في الصباح فارغة لتعود بعد الظهر ملأى بالخيرات وجني العمر... كنا ننظر ونرى فنشعر بان أحشائنا تتمزق من الألم والقلوب تتفطر، ولا نستطيع أن ننبس ببنت شفة. المؤلم أن الفلسطينيين العرب كانوا يجبرون ويسخرون للقيام بنهب خيرات بيوت مواطنيهم والقيام بأحط الأعمال. لقد كانوا يمرون بنا ليعتزروا عما يقومون به، فانهم مجبرون على ذلك بقوة السلاح والتهديد بالموت، وكان البعض الآخر من المواطنين الفلسطينيين العرب يجبرون ويسخرون على نهب القرى الأخرى ومنها دير القاسي. كانت شاحنات العدو الصهيوني تمر على بيوت القرى فتجمع شبابها للقيام بأعمال النهب.
س. هل من الممكن أن يكون نشاطك في القتال والتنظيم والتخطيط لمقاومة العدو قد بقي خافياً عليه؟
ج. مع الأسف كلا، ففي صباح احد الأيام وصلت الشاحنات على عادتها للقيام بعملية نهب المنازل، وكان بين العمال شخص يعرفني، ويعرف أني كنت أمين سر اللجنة المركزية للجليل، سلم علي وذهب مع بقية العمال، ولم يغب طويلا حتى توقف أحد الضباط بسيارته إلى جانبي وأمرني بالصعود إلى السيارة، ولما سألته إلى أين قال لي ستعرف يا ابن ال... انطلقت بنا السيارة حتى وصلنا إلى مركز شرطة ترشيحا التي أصبحت مركزا لقيادة جيش العدو. اختلى الضابط بضابط آخر لبعض الوقت، ثم تركني هناك وعاد لمواصلة عملية النهب.
وما أن غادر هذا الضابط المركز حتى بدأت عملية الضرب واللطم والشتلئم للأب والأم والأخت... وللشعب، ولم يكن أي من جنود العدو قد سالني أي سؤال... لقد كان الجنود يمارسون سيادتهم الحاقدة... واستمر الحال على هذا المنوال حتى ساعات المساء اقتادني بعدها أحدهم إلى غرفة مظلمة حيث بت ليلتي بدون فراش ولا غطاء ولا طعام ولا حتى قطرة ماء... استمرت عملية التعذيب في الصباح، فقد اقتادني أحد الجنود إلى ساحة المركز وأنا حافي القدمين وبدون قميص، وأمرت بكنسها وكان ينهال علي بالضرب واللكم والشتائم... ولم يقدم لي لا طعاماً ولا ماءً. وعند الظهر اقتادوني إلى غرفة الضابط الذي بادرني بالقول: " نحن نعرف عنك الكثير. نعرف أنك كنت بحيفا، وعملت بالجمعية العربية، نعرف أنك حملت السلاح في سحماتا، نعرف بانك أطلقت النار على قوات جيش الدفاع الاسرائيلي، نحن نعرف أنك كنت مسؤولا كبيراً، نعرف أنك لم تغادر القرية بناء على اتفاق مع قيادة المسلحين الذين سيحاولون العودة و... و... فلا تحاول أن تنكر فنحن واثقين مما نقول". ثم راح يسألني وأنا أنفي كل "ألتهم" عدا أني كنت أعمل في جمعية العمال العربية الفلسطينية كنقابي لا غير، أعمل لمصلحة العمال. وقلت له لو أني كنت كل ما تقول لما بقيت هنا لأقع بين أيديكم، وأعرض نفسي للمخاطر. قاطعني بلكمة شديدة وشتيمة بذيئة وقال: "الم نقل أنك بقيت بالاتفاق معهم لتكون مركزاً ودليلاَ لهم..."أمر الضابط جندي بأن يعيدني إلى الغرفة المظلمة مع توصية خاصة بان يقدم لي وجبة من الضرب واللطم والسباب قبل أن يقدم لي بعض فضلات الطعام، ولكن قبل أن يعيدني إلى الغرفة أمرت بأن أكنس بعض الغرف وتنظيف المراحيض.
دام الوضع على هذا المنوال مدة تقارب العشرة أيام كانت جلسات التحقيق، ووجبات التعذيب، وعمليات التنظيف والكناسة... الأسئلة تتعدد وتتكرر وألأجوية على حالها، بينما كانت اللكمات والصفعات تشتد وتزداد. وفي احدى الجلسات قدم لي الضابط ورقة وأمرني بقرائتها بصوت عال. كانت الورقة عبارة عن رسالة موجهة من أمين سر اللجنة المركزية لمنطقة الجليل إلى أمين سر اللجنة المحلية في قرية يانوح تدعوه لحضور الاجتماع الموسع للجنة المركزية الذي سيبحث الموقف من المؤتمر الذي دعا لانعقاده في غزه الحاج أمين الحسيني، والذي دعي اليه بعض وجوهاء المنطقة... وتوقيع أمين سر اللجنة المركزية "أحمد حسين العلي"، الاسم الذي كنت أوقع به.
وما أن انتهيت من تلاوة الورقة حتى سألني: "كنت حتى الآن تنكر أنك كنت مسؤولا كبيراً، وتنكر أن لك علاقة بالمسلحين، وها نحن نقدم لك الدليل على ما كنت تصر على نكرانه، فهل لديك ما تقول؟ وهل أنت لا زلت تشك بما نقول وبان لدينا الدليل على ذلك؟" اجبته: "واين هذا الدليل التي تقول عنه أهذه الورقة هي الدليل؟" أجاب اليس هذا الدليل كافياً؟ اسمك وتوقيعك" هل تريدنا أن نقدم الشهود لتعترف أمامهم؟" أخرجت بطاقة هويتي وقدمتها له، وقلت أسمي أحمد حسين علي سليمان، أما اذا كان الدليل ترادف الأسماء فالكل يعرف بأن الاسماء الشائعة متقاربة وتتكرر".
وكالعادة كان الجواب يتكرر، الضرب واللطم والشتائم، وقال" لن ينفعك الأنكار، سنرسلك إلى من يعرف كيف يعاملك يا ابن ال..." وأمر باعادتي إلى الغرفة اياها. ورحت أفكر كيف وصلتهم الرسالة. هل اعتقلوه، ووجدوا الرسالة معه؟ هل فتشوا منزله كما اعتادوا عند دخول القرى؟ هل هناك اختراق أمني للجنة المحلية في يانوح؟ المهم أنه أصبح لديهم شبه دليل على ما يعدونه جريمة، سيستندون اليه في متابعة التحقيق.
وأعود مثل كل يوم إلى الكنس والتنظيف وخصوصأً المراحيض!!! اثناء وجودي في الساحة رايت مختار قرية ترشيحا السيد حنان عبد الله متري، والسيد يونس خورشيد، أحد تجار ترشيحا وصاحب البناء الذي كان مقراً للبلدية، وأصبح فيما بعد مقرًا للجنة المركزية لمنطقة الجليل. تفائلت خيراً بقدومهما، وطننت أنهما علما بوجودي معتقلا فجاءا للتوسط لاطلاق سراحي، لا سيما أني كنت زميلا لابن المختار في الدراسة. وبعد أن أعادوني إلى الغرفة، ادخل السيد يونس خورشيد إلى الغرفة موقوفاً بتهمة تقديم مقر للارهابيين! وسألوه عن المستندات وأسماء الأشخاص الذين يعرف بأنه كانت لهم نشاطات "ارهابية" و... , و...
حتى الآن لم تكن قد انتهت جلسات التحقيق ووجبات الضرب والشتائم، وكنا كما قلت قد أصبحنا اثنين في الغرفة، وبعد أسبوع جائنا مواطن لبناني من قرية "رميش" القت قوات الآحتلال القبض عليه على الحدود اللبنانية الفلسطينية. وبذا أصبحنا نتقاسم مهام الكنس والتنظيف. بعد يومين من انضمام المواطن اللبناني الينا، استدعانا ضابط التحقيق وقال لنا بحدة: " ستنقلون اليوم إلى حيث من يعرف كيف يجعلكم تعترفون بكلما تصرون على عدم البوح به. أمر بعصب أعيننا، واقتادنا الجنود إلى شاحنة، سارت بنا نحو الغرب، وظننت بأنهم يسوقونا إلى سجن عكا. استغرقت بنا الرحلة حوالي الثلاثة ساعات حتى وصلنا مركز شرطة نهلال وهي مستعمرة يهودية في مرج ابن عامر. وهناك استمر التحقيق معنا وما يرافقه من الوجبات المعهودة. ولكن بالرغم عن الآلام والاهانات كنت أرثي لحال السيد خورشيد وهو يشاركنا باللكمات والاهانات بالنظر إلى تقدمه بالسن، ونظراً إلى وضعه الاجتماعي وعدم اعتياده على مشاق الحياة.
س. أين انتهى بكم الأمر؟
ج. اقتادونا إلى مركز الشرطة الذي أصبح معتقلا ومركز للمخابرات. مشينا والكرابيج تلسع أقفيتنا. ساقونا إلى المعتقل الذي كان عناية عن خيام مكشوفة الجوانب، ومحاطة بالأسلاك الشائكة، ويحرسها جنود العدو الحاقدين، وجدنا هناك عددا من المواطنين الفلسطينيين المعتقلين. أحضر الجنود لنا كل واحد بطانيتين واحدة للنوم عليها وأخرى للغطاء وطبعاً في الجو العصف الذي كان سائدا آنذاك لا يكفي، وكانوا يقدمون لنا وجبات موحدة لا تتغير هي عبارة عن كسرة خبز والبطاطا تتكرر ثلثة مرات في اليوم... صبحًا وظهراً ومساء.
في الصباح طويت البطانيتين وجلست عليهما، بينما تركها الآخرون ملقاة على الأرض كما هي. مر الضابط المناوب يتفقد المعتقلين، فلفت نظره ترتيب البطانيتن التين كنت أجلس عليهما. استدعاني واقتادني إلى المكان المخصص للضباط، وقال لي: "أنت الآن متهم وخادم. نحقق معك، وتبقى بعد التحقيق خادماً للضباط، تكنس المكان، ترتب الأسرة، وتجلي الصحون ومن ثم تعود في المساء إلى المعتقل.
استمر التحقيق واستمر الانكار، ولكن لم أعد أتعرض للضرب والاهانات التي اعتدت عليها في ترشيحا، مع أنني كنت قد انتظرت أكثر منها، وفق ما هددنا به الضابط يوم ما أمر بنقلنا إلى المكان الذي يعرفون كيف يجعلونا فيه نعترف بأننا "ارهابيون". وبعد جلسات التحقيق كنت أقوم بعملي اليومي أي التنظيف والترتيب... وبينما كنت أنظف الصحون أحظى ببعض فضلات الطعام مثل الزبده والمربى والجبنة والسردين والخبز... وكنت أحياناً أحشو ما يمكنني نقله في جيوبي منها إلى الزملاء في الخيمة خصوصا السيد خورشيد والسيد محمود ابراهيم معروف اللذين كنت أحترمهما وأحترم جلدهما على ما يعاينان. أما بقية المعتقلقلين فكنت أخصهما بأعقاب السجائر التي كنت أجمعها لهم، مع أني دائما أقول بئس التدخين من عادة مضرة بالمدخنين والمجتمع.
وكما قلنا سابقاً كان الجنود ينقلون المعتقلين إلى القرى المهجورة لجمع المواد التمونية ,المفروشات والشبابيك وألأبواب وينقلونها إلى مركز محدد في مستعمرتي العفولة ونهلال. ويبقى المعتقلون طيلة النهار بدون طعام حتى يعودون في المساء ليلتهموا قطع الخبز والبطاطا المسلوقة. وكان السيد ابراهيم يحدثني (وهو يبكي) عن التعب والارهاق الذي كان يعانيه وهم يحثونه على الاسراع في العمل بنقل الممتلكات العربية المنهوبة من المنازل إلى السيارات.
لا عجب فالوحشية، والعنصرية، والمجازر الدموية، والحرق والسلب ما هي الا جزء لا يتجزأ من العنصرية وتعاليم اليهودية الصهيونية، ومن يطلع على سفر يشوع يجد الكثير من هذه التعاليم التي تتنافى مع أبسط القيم والأخلاق اللاإنسانية.
س. حتى متى استمر الاعتقال وألآستغلال، ومتى وكيف بدأت رحلة أشتات واللجوء بعد الاعتقال.
ج. كلا لم يستمر الاعتقال طويلا، ولكن ما حدث كان أسوأ وأدهى، اذ بدأت عملية الاقتلاع. فقد اعتادت مراكز المخابرات العسكرية الصهيونية، بعد الانتهاء من عمليات التحقيق ةالتعذيب، نقل المعتقلين إلى معسكر عتليت، معسكر السخرة والأشغال الشاقة حييث يعملون في المحاجر والكسارات. ولم يمض سوى بضعة أسابيع ونحن في مركز نهلال، استدعيت مع تسعة من رفاقي في المعتقل بينهم السيد محمود ابراهيم معروف وأمرونا بألصعود إلى سيارة عسكرية، انطلقت بنا إلى جهة مجهولة، كنا نظن أنها ستنتهي بنا في عتليت. ولكن السيارة اتجهت في الاتجاه المعاكس، اي إلى الشمال، بحراسة سيارة أخرى مليئة بالجنود. وكانت كلما مررنا بمركز شرطة فمن عكا إلى ترشيش فسعسع كان الضابط يترجل من السيارة ويدخل المركز ليعود بعد دقائق، ولما مررنا بقريتنا سحماتا القيت نظرة وداع أخيرة على مهد الطفولة. وعنما وصلنا إلى قرية المنصورة على الحدود اللبنانية/ألفلسطينية أمرنا الضابط بالنزول من السيارة... والاستماع اليه جيداً وقال بلغة عربية واضحة: "انظروا حولكم بامعان، فهذه قوات جيش الدفاع الاسرائيلي منتشرة في المنطقة، أنتم على حدود لبنان، وقد قمنا بتسليم جميع المراكز التي مررنا بها، عكا وترشيحا وسعسع، كشوفات بأسمائكم، سنطلق سراحكم الان، لتلتحقوا بأهاليكم، واياكم أن تفكروا بالعودة... سيروا بهذا الاتجاه، مشيراً إلى الشمال، اياكم أن تلتفتوا إلى الخلف، أو حتى إلى اليمين أو اليسار... ومن يخالف التعليمات سيطلق عليه الجنود النتشرون حولكم النار... ستصلون إلى قرية الرميش ومن هناك تتدبرون أمركم... هيا".
وما أن أنهى كلامه حتى بدأ الجنود يدفعون بنا إلى الشمال، وما أن وصلنا إلى الرميش حتى بدأ جنود العدو باطلاق النار في الهواء ارهاباً، ليدخلوا في روعنا بأنهم جادون بتهديداتهم... وكانت هذه اللحظة نقطة الانطلاق في رحلتنا في الشتات والجوء...
وصلنا إلى قرية الرميش حيث قادني السيد معروف إلى منزل ال الخوري اللذين تربطه بهم أواصر صداقة قديمة، وكنت أسمع من خالي جميل بانه كان هو أيضاً صديق لهذه العائلة الكريمة.
س. حدثنا يا أبو ماهر عن معاودتك للنشاط النضالي في الشتات بعد الاقتلاع.
ج. استأنفت عملي النضالي والتحركات التي تبلورت عبرها شخصيتي النضالية، الوطنية والقومية، فانا مواطن عربي شرده الغزاة الصهاينة من بلدي ومسقط راسي فلسطين عام 1949، وعرفت فيما بعد باسمي النضالي "أبو ماهر اليماني".
قال أبو ماهر: "لقد علمتني تجارب الحياة العملية، دروساً من الناجين في الحياة العملية، والذين أكن لهم كل تقدير واحترام، بأن للنجاح أخلاقيات محددة، لا بد من الالتزام بها في مواجهة مصاعب الحياة، وأبرزها:
"أولا: الصبر على المتاعب، دون الانحناء لها.
"ثانياً: المثابرة وألملاحقة، لتحقيق الأهداف والأماني.
" ثالثاً الدقة في العمل، والاهتمام بالتفاصيل.
"رابعاً: التنظيم، وتوحيد الجهود، لضمان سلامة البنيان.
"خامساً: الأمانة بكل مكوناتها: الصدق ةالاخلاص، ونظافة اليد، طهارة اللسان.
"وستظل فلسطين قبلة أهلها وأبناء الشعب العربي، مطالبون بالمضال لتحريرها، وعودة كل أهلها لها كلها، مهما طال الزمن ومهما تؤالت واشتدت المصاعب والمحن.
"وسيظل التحرير والعودة أمل مرتجى، وهدف لا عودة عنه فمتى يتحقق الأمل، ويتم الوصول إلى الهدف؟
"على عكس ما يأمل العدو الصهيوني بأن الأجيال اللاحقة للنكبة ستنسى فلسطين، فان هذه الأجيال هي التي ستجيب على هذا السؤال وانشاء الله ستحقق الآمال المعقودة عليها... فحياة الأمم لا تقاس بعدد السنوات، وقد أثبت التارخ أن الشعب المؤمن بحقه وبعدالة قضيته يواصل النضال حتى يتحقق الأمل المرتجل، لا بد أن ننتصر... وسننتصر وسنعود محررين مقاومين لا مساومين، ولا مفرطين."
س. ما هي برأيك أسباب سقوط فلسطين والجليل بالذات؟
ج. بدأت رحلة الشتات عندما حللنا في قرية الرميش، على أثر اقتلاعنا من أرضنا وسقوط الجليل بيد العصابات الصهيونية، وفي هذه اللحظة بدات أحاول الاجابة على هذا السؤال الذي كان يجول بخاطري، وبخاطر معظم أبناء المنطقة، لماذا سقط الجليل بهذه السرعة؟ وبقي التساؤل يلاحقني، ولا أجد الجواب الشافي، بالرغم من أنني كنت أسمع إلى الاجابات من هنا وهناك التي لم تقنعني ولم ترو غليلي إلى الحقيقة. ومر الزمن حتى وقعت في يدي مذكرات الكاتب العسكري السيد أكرم الديري الذي اشترك في معركة فلسطين عام 1948 كضابط بجيش الانقاذ، والذي شغل بعد ذلك العديد من المناصب العسكرية والسياسية الهامة في القطر العربي السوري ومن الأسباب التي أوردها ما يلي:
"1- عدم وجود اختيار استراتيجي للأهداف الحيوية التي ينبغي الدفاع عنها، فقد أراد قادة جيش الانقاذ حماية كل المواقع فخسرها كلها.
"2- عدم تلاؤم الهدف مع الامكانيات والوسائل.
"3- عدم اتباع نموزج استراتيجي ملائم لامكانيا