ردود الفعل الإسرائيلية على الموقف الفلسطيني الغاضب جراء قرار حكومة أولمرت طرح عطاء لبناء أكثر من 300 وحدة سكنية في جبل أبو غنيم ، وكذلك الاستهتار بالموقف الدولي الذي عبر عنه الاتحاد الأوروبي والوزيرة رايس رغم ان موقف الأخيرة اكتفى بنقد خجول واعتبر ان القرار الإسرائيلي لن يساعد على بناء الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين سيبدؤون استئناف العملية السياسية معا خلال أيام قليلة قادمة .
الموقف لإسرائيلي الماضي في صلفه وفي تحد لنتائج مؤتمر أنابولس ولقرارات الشرعية الدولية يضع علامة استفهام كبيرة ليس أمام إمكانية نجاح ما تم الاتفاق عليه في أنابولس، وإنما أمام إمكانية نجاح عمالية السلام برمتها ، لان هذا الموقف النابع من رؤية استراتيجية لدى الائتلاف السياسي الحاكم والذي يرى ان الاستيطان مقدم على عملية السلام ، وان القدس خارج عن العملية التفاوضية باعتبارها جزء من الأراضي الإسرائيلية وينسحب عليها قرار الضم الذي اتخذ بعد عدوان عام 1967 واحتلالها بالكامل .
ربما القرار الإسرائيلي الأخير يفتح المجال للنقاش الذي كان وما يزال يربط بين جدوى العملية السياسية التفاوضية، ومواصلة إسرائيل لعملية الاستيطان ومصادرة الأراضي وخصوصا انه بعد توقيع اتفاقات المرحلة الانتقالية في البيت الأبيض عام 1993 تضاعف حجم الاستيطان والمستوطنين مرتين على الأقل في أراضي الضفة الغربية وعلى وجه الخصوص في القدس، بغية استباق أية مفاوضات للوضع النهائي وفرض وقائع مادية على الأرض يصعب تجاوزها او القفز عنها في حال استئناف هذه المفاوضات إذا ما فرضت على إسرائيل نتيجة تغيرات دولية تفرضها حاجة المجتمع الدولي لفرض الأمن والاستقرار بالمنطقة .
وربما قد يفيد التذكير ان أولمرت الذي كان رئيس بلدية القدس هو من وضع المخططات التوسعية للمدينة بما في ذلك إضافة أحياء جديدة عليها وتوسيعها بما يطلق عليه اليوم بمدينة القدس الكبرى وذلك لضمان الطابع اليهودي للمدينة وتقليص عدد السكان العرب فيها، بغية تهويدها ان أمكن ذلك في غضون السنوات القليلة القادمة ، ومن هنا فإن الادعاء الإسرائيلي الذي ورد على لسان أكثر من مسؤول في حكومة أولمرت في معرض رفضه للاحتجاجات الفلسطينية والانتقادات الدولية والعربية على طرح المعطاءات الجديدة للبناء في جبل أبو غنيم تنطلق من حقيقة ان الالتزامات التي قدمها أولمرت قبل ذهابه لانا بولس بشان الاستيطان لا تتضمن القدس باعتبارها ارض إسرائيلية وليست محتلة تنطبق عليها قرارات الشرعية الدولية وبالتالي فهي خارج حسبة المفاوضات المقبلة .
هذا المنطق الإسرائيلي كان قد عززه قرار مشابه قبل أيام قليلة من توجه الوفود إلى أنابولس بمصادرة حوالي 1100 دونم من الأراضي المحيطة بالقدس وضمها إلى القدس لأغراض استيطانية ، وكانت الرشوة التي اسكت فيها أولمرت الغاضبين والرافضين من حكومته للمشاركة في مؤتمر أنابولس وهي تأكيد جديد على ان الاستراتيجية الإسرائيلية بشان الاستيطان لن تتغير سواء قبل او بعد أنا بولس.
وربما كان يتعين على القيادة الفلسطينية وكذلك الموقف العربي ليس ربط الذهاب لانا بولس بالبيان الذي أصدره أولمرت بتجميد الاستيطان فحسب، وإنما للدلالة على جدية وصدقية هذا التوجه والقرار إلغاء ضم الاستيلاء الأخير للأراضي الفلسطينية وضمها للقدس قبل أنابولس .
لقد كان الافتراض الأولي لدى العديد من المحللين بان أولمرت أراد بقرار استئناف البناء في أبو غنيم اختبار الموقف الفلسطيني والدولي وخاصة الأمريكي وبقية الأطراف الأخرى ، وعملية الاختبار هذه لردود الأفعال على القرار ، قد تفيد إما في تمرير الموقف الاستراتيجي الإسرائيلي بالقبول بإخراج القدس من معادلة مفاوضات الوضع النهائي أولاَ ، وثانيا اختبار المواقف فيما يمكن ان يكون الاستيطان والمفاوضات يسران جنبا إلى جنب ، بمعنى العملية السياسية تسير للتغطية على فرض الأمر الواقع الذي سيفرض في نهاية العملية التفاوضية .
ربما هذا التقدير الأولي كان صحيحا قبل ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية من أكثر من طرف حكومي، بما فيهم من يسمون بالمعتدلين ، ناهيك عن المتطرفين أمثال ليبرمان ويشاي وغيرهم ، لقد عبرت هذه المواقف رغم تلونها السياسي المختلف عن رؤية موحدة بشان القدس أولا ، واستمرار الاستيطان ثانيا .
وعليه وبعد ان قطع الشك باليقين بموقف حكومة أولمرت بشقيها المعتدل والمتطرف هذا ان كان جائزا التقسيم بهذا الشكل، فإن نتائج مؤتمر أنابولس أصبحت في مهب الريح ، وهذه الرسالة ليست موجهة للقيادة الفلسطينية فحسب ، وإنما موجهة للإدارة الأمريكية وهي اختبار لمدى جديتها فعلا في تحمل مسؤولية هذا المسار السياسي ، ومدى مصداقيتها ثانيا مع الأطراف العربية والإسلامية التي تعهدت لها ان الاستيطان في الأراضي الفلسطيني والقدس خصوصا كعربون للمشاركة في أنابولس .
الإدارة الأمريكية اليوم هي أمام اختبار جدي ليس لنواياها في المنطقة وجديتها لما كانت تريد ان يتمخض عن أنابولس من قيام ائتلاف سياسي عريض برئاستها لمقاومة التطرف والإرهاب ولمعالجة مأزقها المتفاقم من كابول مرورا بطهران وبغداد وبيروت ودمشق ، وإنما وضع مصداقية الولايات المتحدة مجددا على المحك لان تكون الراعي النزيه للعملية السياسية التي قد تواجه بانتكاسة كبيرة قبل ان تبدأ انطلاقتها الجديدة الأربعاء من 12 الشهر الجاري.
وفي ضوء الموقف الإسرائيلي الذي رفع سقف التحدي للقرارات الدولية بما في ذلك أسس عملية السلام ووجه ضربة قاسمة لأسس انطلاق العملية السياسية وفي المقدمة منها التزامات إسرائيل في المرحلة الاولى من خطة خارطة الطريق والتي تنص على وقف جميع الأنشطة الاستيطانية بما فيها التوسع الطبيعي، هذا الالتزام الذي يشكل أساسا مع الالتزامات الأخرى كأساس لانطلاق العملية التفاوضي وبرعاية أمريكية باعتبارها الحكم على تطبيق المرحلة الأولى وهي بالمناسبة كانت أساسا لانطلاق تفاهمات مؤتمر أنابولس وصولا لمفاوضات الوضع النهائي.
ان الانتهاك الإسرائيلي لأسس العملية التفاوضية قبل ان تبدأ ينبغي ان يقابل بموقف فلسطيني حازم وواضح لا يقف عن حدود الرفض والإدانة ، بل برهن استئناف العملية التفاوضية التي ستنطلق الأربعاء بوقف كافة الأنشطة الاستيطانية وفقا لالتزامات خطة خارطة الطريق ، ومن المفيد ان تزور رئيسة الدبلوماسية الأمريكية المنطقة في 19 الشهر الجاري والعملية التفاوضية معلقة بفعل الموقف الإسرائيلي الذي ضرب أسسها، وربما أيضا من المفيد ان يظل الموقف الفلسطيني ثابتا ومتواصلاَ إذا لم تستطع السيدة رايس تغيير الموقف الإسرائيلي وبدعم عربي وإسلامي حتى زيارة الرئيس بوش للمنطقة الشهر القادم .
هذه الرسالة يجب ان تكون واضحة ومواجهة للعنوان الصحيح الإدارة الأمريكية صاحبة الدعوة والراعية الحصرية للعملية السياسية وكلمات الانتقاد الرقيقة للموقف الإسرائيلي لا يمكن ان تحل القضية ولا يمكن أيضا قبول استمرار المفاوضات جنبا إلى جنب استمرار مصادرة الأراضي والاستيطان، ومواصلة بناء جدار الفصل العنصري لان ذلك لا يشكل تغطية على هذه العملية، بل ولأنه ينسفها من أساسها ولان التفاوض من حيث المبدأ يجري على ضمان انسحاب الاحتلال عن الأراضي المحتلة وليس تشريع هذا الاحتلال .
كما ان بعض الأصوات التي قد تخرج من هنا وهناك والداعية إلى عدم تصعيد الموقف وتمرير اللقاء المزمع عقده يوم الأربعاء حتى لا يتعطل اجتماع الدول المانحة في باريس في ال17 عشر من الشهر نفسه، لا تستند إلى تقدير صحيح للموقف الدولي ، الذي أدان الموقف الإسرائيلي، وقد يكون ذلك مناسبة أيضا في هذا المحفل الذي ستحضره حوالي 90 دولة ومنظمة دولية وإقليمية توجيه إدانة لإسرائيل وتحميلها مسؤولية تعطيل ان لم نقل إفشال عملية السلام في المنطقة قبل انطلاقها.