ابو ابراهيم الاحمد عميد
المزاج : غاضب من اجل فلسطين تاريخ التسجيل : 22/01/2009 الابراج : الأبراج الصينية : عدد الرسائل : 826 الموقع : https://fateh83.yoo7.com العمل/الترفيه : الرياضه
بطاقة الشخصية فتح: 50
| موضوع: السودان في مواجهة المشاريع المعادية للأمة العربية الأحد نوفمبر 08, 2009 5:10 pm | |
| جسر العرب إلى إفريقيا يدفع ضريبة دوره وثرواته وإمكانياته الواعدة |
| عبد اللطيف مهنا |
مقدمة للملف
في سياق استهدافات المشروع الغربي المعادي تاريخياً في وطننا العربي، والهادف بدايةً إلى منع وحدته، وبالتالي الحؤول دون احتمالات نهوضه وتقدمه، وما يعني العمل على تمزيقه وتفتيته وتجزئة المجزأ فيه، لتسهيل عملية السيطرة على حراكه فالهيمنة الكاملة عليه ومن ثم نهب ثرواته. هذا المشروع، الذي بدأ مع بدايات الحقبة الاستعمارية قبل ما ينوف على القرون
|
|
|
الأخيرة الثلاثة، مروراً بمؤامرة اغتصاب فلسطين، وإقامة الدولة المانعة، التي هي الكيان الصهيوني لعزل مشرقه عن مغربه، وما تبع حتى يومنا هذا...في سياق استهدافات هذا المشروع، تعرضت وتتعرض الأقطار العربية جميعاً وعلى الأخص تلك التي ترشحها أحجامها وأوزانها وأدوارها وثرواتها وإمكانياتها للعب دور الروافع المطلوبة لنهوض الأمة وتحقيق وحدتها وتقدمها، أو ما يعني أخذها للمكان اللائق بتاريخها ودورها الحضاري الإنساني وطاقاتها بين سائر الأمم...تم إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني عبر كامب ديفيد، وبالتالي إفقادها دورها القيادي والريادي العربي..الصراع الداخلي الدامي المدمر الذي جُرَّ له القطر الجزائري منذ حوالي ما ينوف عن العقد بغية إعاقة صعوده الواعد الذي لاح بعيد انتصار الثورة.. غزو العراق واحتلاله وتدمير كافة ركائز الدولة فيه، باعتباره دائماً مرشحاً لأن يكون واحداً من تلك الروافع الأساسية في هذا النهوض، الذي هو موضوعياً ضرورة وشرط بقاء وضمانة وجود... فمحاصرة سورية آخر قلاع الأمة الممانعة... إشعال كافة بؤر التوتر العرقية والثقافية المتيسرة في السودان بغية تفتيته وتمزيقه، لما له من دور حضاري تاريخي ومستقبلي كجسر يربط أمتنا بجوارها الإفريقي، ولما فيه من ثروات دفينة يسيل لها لعاب الغرب، وإمكانيات كبيرة تعد ذخيرةً قوميةً، أقلها أنه يشكل كما يقال سلة غذاء الوطن العربي المستقبلية. في هذا العدد رأت أسرة تحرير "فتح" أن يكون ملفه متعلقاً بمعالجة مثل هذه الحقيقة واستحقاقاتها التي يعيشها الوطن العربي في هذه الحقبة المصيرية الخطرة التي تتهدد مستقبل أمتنا برمتها، وحيث كل قضاياها جميعاً على اختلاف أقطارها واحدة لا تتجزأ، وعليه، فملف هذا العدد سوف يعالج الهموم والمشاكل والأخطار والمحاذير التي يواجهها القطر العربي السوداني الشقيق. هذا الذي يواجهه في جنوبه وغربه وشرقه وشماله بؤر توتر، منها مزمنة ومنها مفتعلة تغذيها الأطماع الخارجية وتحرص على أن تصب الزيت على نار قضاياها كلما طوقت أو خبت أو لاح ما يبشر بانطفائها. وعليه، تنشر "فتح" في هذا العدد سلسلة مقالات أربع مجتمعة في ملف واحد، كتبها الأخ عبد اللطيف مهنا، عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح مفوض الإعلام والدراسات، ، كنا سابقاً قد نشرنا واحدة منها، نعيد نشرها مع الثلاث اللواتي تلينها لأهمية التسلسل وما يربطها مجتمعة، تعميماً للفائدة وتفادياً للنقص الناجم عن تجزئتها. السودان وجنوبه .. الوحدة أم الانفصال؟ يومًا بعد يوم يقترب السودان من موعده مع استحقاق مصيري هو الاستفتاء على بقاء وحدة جنوبه مع شماله أو انفصاله... موعد، اختطته له اتفاقية نيفاشا المعقودة بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، الحركة الجنوبية المتمردة على السلطة المركزية في الشمال (سابقا). ومع اقتراب هذا الموعد المستوجب، تتصاعد وتيرة القلق والتوتر والتحفز لدى الأطراف المعنية شمالًا وجنوبًا، لكنما، وهنا المفارقة، قد يبدو القلق في الوطن العربي على مصير وحدة السودان من جرّاء ما قد ينجم عن مثل هذا الاستفتاء الذي سيذهب إلى الجنوبيين، هو أعلى مما يظهره السودانيون أنفسهم، الأمر الذي قد يصعب تفسيره بالنسبة لمن هم سواهم من العرب. هل هو لأن خيار الوحدة بالنسبة للجنوبيين، ووفق ترجيح بعض المتفائلين من أهل السودان، قد غدا الآن أقرب من ذي قبل؟ وهنا يمكن هؤلاء سوق شواهد عديدة. أم أن انخفاض حدة هذا القلق، ولو ظاهريًّا، هو ناجم فحسب عن طبيعة السودانيين المعروفة الأميل إلى الهدوء؟ أم أن الشماليين قد ملّوا الصراع وكلفته الثقيلة متعددة الأوجه، التي لاحقتهم طيلة عقود الاستقلال، فوصلوا مكرهين إلى قناعة مؤداها إما وحدة بمعروف أو انفصال بمعروف، وهذا ما سبق وأن عبرت عنه قوى شمالية علنًا وبالفم الملآن؟! على أية حال، الاستفتاء قادم، والأطراف تتأهب لاستحقاقاته وتستعد ليومه الموعود، وهناك أحداث كثيرة تسبقه في الساحة الجنوبية تجعل من الصعب إصدار أحكام قيمة لا تنسجم مع التعقيدات الكثيرة والتي تزداد مع اقتراب الموعد وتجعل من كلا الخيارين أمرًا مرجحًا. فنظرة متفحصة للتفاصيل الجنوبية تجعلنا نحن الناظرين إلى السودان من خارجه ندرك مدى مثل هذه التعقيدات وصعوبة توقع ما قد تفضي إليه، وما قد يطرأ خلال هذه المدة المتبقية التي تفصلنا عن هذا الاستحقاق المصيري المقبل بالنسبة لهذا البلد العربي المستهدف، ليس في جنوبه فحسب، وإنما في غربه وشرقه وحتى شماله، ولما يعنيه من أهمية وفرادة في الجسم العربي، أقله كونه يشكل رابطًا حضاريًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا بين الأمة العربية وإفريقيا. وإذا كان اتفاق نيفاشا المبرم في كينيا وبرعاية غربية مباشرة قد وقعته الحكومة السودانية المركزية، أو حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مع الحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوبية المتمردة بقيادة زعيمها الراحل الدكتور جون قرنق، فيجدر بنا والحالة هذه أن نبدأ بهذه الحركة، التي تتعالى اليوم بعض الأصوات فيها تنذر مرجحة خيار الانفصال، لا سيما في سياق بعض المزايدات بين أطرافها، أو ما تبديه من الاحتجاجات المتعلقة بخلافاتها مع شريكها في الاتفاقية والحكم، أو في ضوء محاولاتها حجب الصورة السيئة التي لحقت بها بعد أن أعطاها الاتفاق سلطتها الراهنة على الجنوب، وما ساد خلالها من مظاهر التسلط والفساد المستشري وتفاقم الأوضاع الحياتية المزرية للجنوبيين، إلى جانب ظاهرة المذابح المتتالية الناجمة عن الصراعات القبلية العنيفة المتعاظمة هذه الأيام. كما هو معروف للحركة ذراعها العسكرية الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهو المسيطر ميدانيًّا وليس جناحها السياسي، وذو السطوة هذا تسيطر عليه قيادات ومؤسسات عائدة لقبيلة واحدة هي الدينكا. أما على المستوى التحتي، فهو مشكل من ميليشيات قبلية متعددة، فلكل قبيلة مشاركة في الجبهة الشعبية وحداتها العسكرية على رأسها جنرال يسمى قائدًا ميدانيًّا، حيث بلغ عديد هؤلاء ما يقارب المئة والستين جنرالًا. إلى جانب كون الدينكا ذاتها مكونة من مجموعات دينكاوية مختلفة وتقطن جغرافيات متعددة أيضًا، ومنها، دينكابور، قبيلة زعيم الحركة الراحل الدكتور جون قرنق، ودينكا بحر الغزال، قبيلة نائب رئيس الجمهورية وخليفة قرنق سلفا كير، ودينكا أبيي، قبيلة وزير الخارجية السوداني الحالي، ودينكا رومبيك إلخ. تلي الدينكا في الأهمية قبيلة النوير، التي يتقاسم زعامة عناصرها في الحركة ريك مشار المنشق عن الحركة والمنضم للحكومة سابقًا ثم العائد للحركة لاحقًا، والداعي الآن لانفصال الجنوب، وجون لوك المطالب بانفصال النوير عن الجنوب وعدم الخضوع للدينكا. بعدهما تأتي قبيلة الشلك، التي يتنازع التأثير على عناصرها كل من باقان أموم رئيس الحركة ذي التوجه الانفصالي، المزاود على منافسة الدكتور لام أكول، القيادي التاريخي ووزير خارجية السودان السابق، المنشق عن الحركة لاحقًا ليؤسس حركته التصحيحية المناوئة للفساد، وهو وحدوي الميول... وبعد هذه المجموعات الكبرى الثلاث يأتي عديد القبائل النيلية التي تقدس غالبيتها المطر، والقبائل الاستوائية ذات الغلبة الأرواحية، التي تعارض سطوة الدينكا، والتي تميل بالتالي للانفصال عن الجنوب إذا ما انفصل عن الشمال، والالتحاق بأبناء عمومتها الأوغنديين والدول الإفريقية المحاذية، مثل قبيلتي اللاتوكا والأشوي، والأخيرة قبيلة الرئيس الأوغندي السابق عيدي أمين، وهي في غالبها مجموعات متعاطفة مع ما يسمى "جيش الرب" الأوغندي المتمرد على كامبالا... أما القبائل غير المنخرطة في التمرد، أو هي خارج الحركة الشعبية فهي إجمالًا ليست معها. يقارب تعداد الجنوبيين السبعة ملايين نسمة، ثلاثة ملايين منهم يعيشون في الشمال، وهذه سبعة الملايين منها ما يقارب المليونين من المسلمين، والمليون ونصف من المسيحيين الإنجيليين، وثلاثة ملايين ونصف تقريبًا من الأرواحيين... ما هو موقف كل هؤلاء من مسألة الوحدة والانفصال؟ يمكن القول إن المسلمين هم مع الوحدة إجمالًا، وهم في غالبيتهم من مجموعة الفرتيت التي يتزعمها الشيخ أحمد الرضا الجابر، إلى جانب بعض قبيلة الدينكا نفسها، من جماعتي الشيخين أبو بكر دينغ وعبدالله دينغ نيال المنتميين إلى الحركة الإسلامية. أما المسيحيون، فهم إلى جانب وقوعهم تحت تأثير المبشرين الإنجيليين، ويتفشى بينهم شهود يهوه، فيميل غالبيتهم إلى الانفصال وينقادون للنزعة الانفصالية لمتعلمي الدينكا ذوي العلاقات الواسعة مع الغرب، وغير قريبة العهد مع إسرائيل، والمتينة مع النظامين الأوغندي والكيني المتعاطفين، بل المشجعين لهذه النزعة، واللذين دأبا على المسارعة للتوسط للم شمل الحركة كلما تعرضت للانشقاقات أو دهمتها الخلافات والمثابرة على دعم انفصالييها. بالمناسبة هناك من يتهم الرئيس الأوغندي موسوفيني بأنه وراء مقتل زعيم الحركة الراحل بعد أن سقطت طائرته العائدة من كامبالا في ظروف غامضة لأنه حسم خياره الوحدوي. بقي الأرواحييون، وهم في غالبيتهم مجموعات قبلية وعرقية متفرقة، غالبيتها معزولة نسبيًّا في الغابات، حتى أن كثيرًا منهم لا يعرف من هو رئيس السودان، وهؤلاء من غير المضمون أن تصلهم صناديق الاستفتاء، إلى جانب أن الانصياع لدى قبائل الجنوب عمومًا، وليس هؤلاء فحسب، هو لخيار زعيم القبيلة التقليدي الذي تحكمه عادة مصلحته أو من يدفع أكثر، ولعل ما حدث ذات مرة في دائرة الأماب الانتخابية في منطقة البحر الأبيض ما ينبئ بمثل هذا. ففي هذه الدائرة أسقط أهلها وهم من غير المسلمين مرشح الحزب الشيوعي المعارض لتطبيق الشريعة الإسلامية مصوتين لصالح فوز مرشح الإخوان المسلمين المطالب بتطبيقها! ولكي تكتمل الصورة، يجب أن لا ننسى أن ثلاثة ملايين جنوبي يقيمون الآن في الشمال، تحاول الحركة الشعبية جهدها ألا يُمنحوا حق المشاركة في الاستفتاء، لأن الانفصال سوف يفقدهم أعمالهم ووظائفهم ومنازلهم إذا ما صوتوا إلى جانبه، وبالتالي فمن المرجح أن تصوت غالبيتهم ضده. لعله هنا يكمن سر الضجة الراهنة القائمة حول قانون الانتخاب بعد أن تم تجاوز مسألة تشكيل الدوائر. كما يمكن التذكير بأن حوالي المليون من المنتسبين للحركة الشعبية هم شماليون... وهناك من يرى في حسم مسألة تبعية منطقة أبيي، أو تحديدًا مواقع نفطها، إلى الشمال، قد وجه ضربة قوية للانفصال، وأن في الغرب الداعم للتمرد من بات يخشى من أن انفصال الجنوب سوف يؤدي إلى تفكيك أثيوبيا الدائرة في الفلك الغربي، والتي يسمح دستورها الاتحادي لشعوبها بأن تقرر الانفصال وقتما شاءت، فما الذي يمنع شعب الأرومو، مثلًا، التائق تاريخيًّا للانفصال من ذلك؟! وإذا ما أضفنا مسألة التسلط والفساد وخلافات زعماء القبائل مع النخبة الانفصالية، وسائر تعقيدات توازن القوى، نخلص إلى سؤال يظل مسلطًا على العرب والسودانيين حتى موعد هذا الاستفتاء المصيري: هل حقًّا أن فرص الوحدة قد غدت أكبر من الانفصال؟ هنا تأتي أهمية المسألة الإجرائية... قانون الاستفتاء، من يحق له التصويت، عدم التلاعب... وأكثر من هذا وذاك، على نوايا رعاة الانفصال وداعميه من جبهة القوى الخارجية الساعية لتجزئة المجزأ في الوطن العربي... نأمل أن يكون انخفاض مستوى القلق على الوحدة في السودان له ما يسوّغه!
السودان وشرقه... نهاية تمرد أم كمون وانتظار؟! لا تقتصر مشاكل السودان ذات الصبغة المصيرية على احتمالات خطر انفصال يلوح أو يُلَوَّح به في جنوبه، ولا بلوى تمرد أشبه بحالة استنزاف عبثية مبيتة لا يراد لها توقفاً في غربه، وهذان أمران كنا قد عالجناهما في مقالين سابقين قد تتاليا، وإنما قد تشارك جنوبه وغربه في بعض ما هما فيه باقي جهاته الأخرى، أو بما يرهص بما هو أشبه بحاليهما، وكأنما قدر هذا البلد العربي شبه القارة مساحات، والمتعدد أعراقاً وأقواماً وثقافات، والهائل قدرات وإمكانيات وثروات، وذو الموقع الجيوبولتيكي المهم، ثم كجسر حضاري عربي يربط الأمة بجوارها الأفريقي، أن يظل ينوء تحت أثقال ضريبة خصوصيته وموقعه ودوره، وإطماع الطامعين في ثرواته. بعد عام على توقيع اتفاق نيفاشا المتعلق بإنهاء الحرب في جنوبه، تم توقيع اتفاق سلام أسمرة المتعلق بوقف التمرد الدائر في شرقه في احتفالية رعاها الرئيسان السوداني والإريتري... كان هذا في العام 2006، ومن يومها هدأت جبهة الشرق هذه، حيث حصل المتمردون مقابل هذا الهدوء وكحل للمشكلة على مناصب إدارية وقليل من سياسية، مع وعود تنموية... هل هذا يعني أن المشكلة قد سويت، وأن هذه الثغرة في الجدار السوداني قد سدت؟ هنا لا بد لنا من التوقف ملياً أمام قضايا ثلاث، أولاها، موقع الإقليم وأهميته الجيوبولوتيكية والاقتصادية. وثانيتهما، الدوافع والأسباب والظروف المحلية والداخلية والإقليمية والدولية التي أججت التمرد، ودعمته، ووقفت من ورائه. وكذا، وهنا نأتي إلى ثالثتهما، ذات الظروف المحلية والداخلية والإقليمية والدولية، التي ساعدت على وقفه، أو قضت بتوقيع الإتفاقية التي أعلنت إنهاءه. أي إننا ونحن نتصدى للإجابة على تساؤلنا، لا بد أن نأخذ في الحسبان كافة هذه العوامل لندرك ما إذا كان هذا الهدوء الظاهر، الذي يعيشه الإقليم إثر تنفيذ هذه الإتفاقية، هو ركون نهائي إلى حل منشود ترسّخ أم أنه مجرد كمون مؤقت لنار فتنة تحت رماد إتفاقية فرضتها الظروف المشار إليها آنفاً؟ تنداح تخوم الإقليم المترامية من منطقة القلابات المحاذية للحدود الأثيوبية الغربية مروراً بالحدود الأرترية فكامل الساحل السوداني على البحر الأحمر وحتى مثلث حلايب على الحدود مع مصر، حيث تقع الموانئ السودانية الوحيدة الثلاثة، بور سودان، وسواكن، والميناء النفطي السوداني البشائر. والإقليم الذي يحتوي على أكبر منجم ذهب في السودان في منطقة أرياب والمنتج لما يقدر ما بين خمسة إلى ستة أطنان سنوياً، تقع فيه خزانات المياه الرئيسية في البلاد، مثل خشم القربة، وفيه تتركز المشاريع الغذائية الكبيرة في ولاية القضارف. يضاف إلى ذلك أهميته الجيوبوليتيكية؛ إذ إنه يشكل تماساً مع كل من الجزيرة العربية، عبر البحر الأحمر، ودول القرن الأفريقي... كما أنه وحده يحتكر الخلافات الحدودية مع جيران السودان، والتي، فيما عدا الخلاف مع مصر حول مثلث حلايب، تحرك باقيها الأطماع الأثيوبية والأريترية، حيث مصدر الخلاف مع أثيوبيا يعود لأطماعها في مثلث القشقة الخصيب المحاذي والمتداخل مع منطقة المتمة الأثيوبية، وهي المنطقة التي يقطنها فرع من قبيلة الجعليين العربية، التي ينتمي إليها الرئيس السوداني البشير ووزير خارجيته مصطفى عثمان طه، والذي كان قد هاجر إليها هذا الفرع الجعلي تجنباً لانتقام والي مصر محمد علي إثر واقعة إسماعيل باشا الشهيرة، ابنه وقائد حملته على السودان، الذي كان أن قضى هؤلاء الجعليون عليه حرقاً مع قيادته... أما مع اريتريا، فتشكل بعض الامتدادات الإثنية لمجموعات قبلية أغلبها رعاة إبل عابرون للحدود يجوبون مناطق جافة، مثل البجا وبني عامر والهدندوا، والتي تبدأ فروعها بالبشاريين شمالاً حيث الحدود السودانية المصرية وتتوغل في عمق الساحل الأريتري جنوباً، ركيزة للأطماع الأريتيرية ودافعاً لها، إذ تضع أسمرة أنظارها على مناطق كسلا والقاش ودلتا طوكر... أما إشكالية مثلث حلايب مع مصر فيعود إلى الحدود التي اختطها الاستعمار البريطاني قبل رحيله، وهي إشكالية لم تكن قيد التداول حتى حادثة محاولة إغتيال الرئيس المصري في اثيوبيا المعروفة، والتي تحركت بعدها القوات المصرية إلى داخل المثلث ولازالت فيه... كيف بدأ التمرد؟ تعود جذور التمرد شرق السودان للاحساس الكامن لدى المجموعات البجاوية تحديداً بنوع من الهوية الخاصة، يغذيه تاريخياً أنه كانت للبجا يوماً من الأيام إمارة خاصة بهم، وكباقي أطراف التمرد في كافة جهات السودان، تتزعم النخب مثل هذه النزعات عادةً ويقتصر هذا بدايةً عليها، إذ بدأ التحرك بعيد الاستقلال مباشرة بانعقاد مؤتمر البجا العام 1957، الذي تزعمه طه عثمان بليّه. أعقبه مؤتمر في العام 1960، والذي يعدّ بداية للتحضيرات للحركة العسكرية لاحقاً. وهنا تجدر الإشارة إلى العلاقة الوطيدة والمتأثرة حينها بحركات التحرر الأريترية، وخصوصاً جبهة التحرير الأريترية، هذه المرتكزة بشرياً على سكان المنخفضات الأريترية من ذوي الأصول البجاوية. أما المؤتمر الذي عقد فيما بعد في بداية التسعينات، فقد ضمّ نزعات قومية اجتماعية ويسارية وعلمانية. وكانت حركة التمرد هذه شأنها شأن حركات التمرد السودانية الأخرى، تلك التي ترفع بدايةً لواء التهميش سبباً، وهو حقيقي غالباً، ثم تتعالى داخلها عادةً أصوات نخبوية انفصالية ذات نزعات عنصرية، لكنما علينا ملاحظة أن الوضع في شرق السودان هو مختلف في كون أطراف التمرد هنا لا تقتصر على البجاويين وحدهم، وهم الذين لا يشكلون سوى 30% من سكان الإقليم، فهناك الطرف الثاني فيما يسمى تحالف جبهة الشرق، وهو الرشايدة، وهم قبيلة عربية ذات تقاليد مغلقة ترفض الاختلاط بسواها، وشكلت فصيلها المقاتل الخاص بها، المعروف بالأسود الحرّة، وهي إذ تتحالف مع البجا لكنما ظلت ترفض الانضمام لمؤتمرهم، كما أنها وباقي السبعين في المائة من سكان الإقليم هي ضد الانفصال... يضاف إلى هذا أن أي شعارات انفصالية عنصرية هنا هي مستقبلاً خاسرة انتخابياً، لا سيّما، وعلى سبيل المثال، وأن نفوذ الميرغني الديني في جماهير البجا أنفسهم، والتي في غالبيتها ليست مع الانفصال، هو أكثر تأثيراً من نخبهم المتمردة، ولذا فهذه النخب تشعر بالعداء تجاه زعيم الطائفة الختمية أكثر منه تجاه الرئيس السوداني البشير نفسه! إذن، وكما أشرنا، لقد أسهمت جملة من العوامل، التي تضافر تأثيرها، في إشعال جبهة الشرق هذه ودعمها ورعاية تمردها، ويأتي هنا في المقدمة النظام الأريتيري، الذي احتضن في حينه كافة صنوف المعارضة لنظام الحكم في السودان بأجنحتها السياسية والمسلحة، ورعى على التراب الأريتري قواعد ومعسكرات لجبهة قوامها، قوات مؤتمر البجا، والتحالف الوطني السوداني المعارض، ولواء مجهز من قوات الحركة الشعبية الجنوبية المتمردة، التي كان زعيمها جون غرنق يرى في تنشيط جبهة شرق السودان ما يخفف الضغط الحكومي عليه في الجنوب. ثم جاءت محاولة إغتيال الرئيس مبارك المشار إليها، وموقف السودان من غزو العراق، فأعطيا التمرد بعداً عربياً رسمياً مشجعاً من قبل بعض الأطراف العربية، لا سيما المؤيدة منها للغزو، بالإضافة إلى أن مسألة تهديد خطوط تصدير النفط وانعكاس ذلك على عملية محاصرة الخرطوم اقتصادياً جعل من أطراف دولية عديدة تبارك التمرد وتدعمه... هذا ما كان، فما الذي تغير فأدى إلى الوصول إلى اتفاقية سلام 2006 في أسمرة!؟ إنه تغير التوازنات الدولية والأقليمية والداخلية، وأهمها: تغيّر سياسة النظام الأريتري، الذي رأى أن من مصلحته كسب السودان، أو تحييده على الأقل، في صراعه مع أثيوبيا، بالإضافة إلى كلفة دعمه للتمرد وهو يعيش أزمة تردي اقتصادي مزمنة ومن ثم حاجته الماسة لفتح الحدود مع السودان. ثم توقيع اتفاقية نيفاشا مع الجنوب بحيث لم يعد غرنق في وارد مواصلة دعم حلفاء الأمس. ثم تهدئة الخلافات المصرية السودانية، وانتهاء الخلافات العربية مع السودان تقريباً... يضاف لكل هذا خروج الترابي من السلطة... والآن، وبالإضافة إلى كون اتفاق السلام هذا لم يشمل كل القوى المتمردة، الحركة الوطنية لشرق السودان، مثلاً. ولأن من وقعوها ينقسمون اليوم بين من هو مع الحكومة ومن هو ضدها، ومنهم من اختار خير الأمور الوسط، فما هو مستقبل سلام أسمرة؟ من الطبيعي الإجابة بالقول: إنه يظل رهن التوازنات إياها التي دعمت التمرد سابقاً ثم دفعته لاحقاً للجنوح إلى السلام... ويكفي هنا أن نقول إنه إذا ما اشتعل الجنوب مجدداً، وهذا أمر غير مستبعد، أو عاد التوتر مرة أخرى مع أريتريا، فحينها لا عجب ولا هو بغير المتوقع أن يشهد شرق السودان مرة أخرى حالاً يمكن وصفه، وببساطة، بأنه إنما عود على بدء!
السودان وغربه.. استنزاف لا انفصال!.. قبل أن يغادر منصبه كقائد عسكري للقوة المشتركة للأمم المتحدة و الاتحاد الإفريقي في إقليم دارفور السوداني، لخّص اللواء النيجيري مارتن لوثر أغواي واقع الصراع الدائر بين الحكومة المركزية في الخرطوم ومتمردي الإقليم، بعبارة كانت وحدها كافية لتوصيف راهن حال التمرد هناك، قال: "إن الشيء الوحيد الذي أراه هو أعمال لصوصية وقطع طريق".
قالها، وهو يشير إلى أن الإقليم لم يعد في حالة حرب، وأن المتمردين الذين انشطروا إلى مجموعات صغيرة بلغت العشرين لم تعد تمتلك القوة لمواصلة القتال ضد الحكومة، باستثناء واحدة هي "حركة العدل والمساواة" الأكثر تسليحاً من باقي هذه المجموعات، إذ يرى أنها هي وحدها القادرة الآن على شن غارات عسكرية محدودة... هل ما قاله يعني أن النزيف السوداني في هذا الإقليم هو موضوعياً في طريقه إلى الإيقاف، لا سيّما وقد كثر الكلام عن الوساطات واللقاءات والمبادرات العربية والإفريقية وسواها لجمع شمل المتمردين وسوقهم إلى مائدة المفاوضات مع الحكومة سعياً لتلمس سبل التوافق بين الطرفين على وضع حدٍ لهذه البؤرة السودانية النازفة؟!
لكي نصل إلى استنتاجٍ متفائل مثل هذا، لا بد لنا من كثير من الحذر، لا سيما ونحن إزاء صراعٍ له خلفيات وخصوصية مختلفة كل الاختلاف عن ذاك الذي في جنوب السودان، والذي عالجناه في مقال سابق، وإن كان الارتباط بينهما مشهوداً، سنعرض له لاحقاً، وكذا هو الترابط أيضاً بين كامل مشاكل السودان غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، فالإقليم الذي تبلغ مساحته 650,000 كيلو مترٍ مربعٍ، أو ما يعادل مساحة فرنسا، والذي يقطنه حوالي ستة ملايين سوداني، جميعهم مسلمون، يفاخرون بأن بينهم أكثر حفظة للقرآن في العالم، يشكلون مزيجاً قبلياً ذا سمات وفروقات عرقية غير واضحة هي بدورها خليط من الأفارقة والعرب، لا زال سليماً من النزعات الانفصالية، وقضايا الصراع فيه بدورها لا تتسم أيضاً بالوضوح، و تتركز حول الاحتجاج على ما يدعى التهميش، وقسمة السلطة والثروة، والتعويضات. لكنما، وعندما يتبدى للمتابع أن المتوسطين قد نجحوا، وأن أطرافه قد شارفت على التوافق على الحلول التي طال أمد التفاوض حولها، وحيث يصبح التوقيع على ما اتفق عليه قاب قوسين أو أدنى، تزداد مطالب المتمردين فجأة ويضاف إليها جديدها، فيما يتضح للمراقب أنه نكوص أو تنصل من ورود مثل هذا الاستحقاق... ويستمر النزيف الدارفوري ومعاناة الدارفوريين وأثقال الكلفة الوطنية للصراع!
وبرغم أن بعض الأصوات المتمردة و بعض وسائل الإعلام الغربية تحاول أن تعطي هذا الصراع، الذي بدأ عام 2003، أي بالتزامن مع بدء غزو العراق، بعداً عرقياً مفتعلاً، بزعم أنه إنما يدور بين العرب والأفارقة، فإن هذه المزاعم يدحضها الواقع وتاريخ الإقليم، والذي يقول إنه إذا ما كان هناك من أساس للصراع فإنه لا يتعدى تليد الصراعات القبلية الدائمة، التي يمكن اختصارها بالنزاعات التقليدية بين الرعاة والمزارعين في أوقات الجفاف وابتلاء التصحر، أضيفت له المسائل المطلبية العادلة لاحقاً.
قبلياً، يتوزع ستة الملايين سوداني من قاطني الإقليم مناصفةً مجموعتان من القبائل، واحدة لها لهجاتها المختلفة التي تشكل أداة تواصلها الأولى تليها العربية، والأخرى لغتها الوحيدة العربية، وهذه الأخيرة تتشكل من قبائل صغيرة هي حوالي السبعين قبيلة، منها التعايشة، التي تذكرنا بعبد الله التعايشي خليفة المهدي قائد الثورة المهدية التي اندلعت من هذا الإقليم لتعم السودان في حينه، والمحاميد، والصلحة، والهلبة، والزريقات، وبني هيلة، والكبابيش، والحمر...إلخ. أما المجموعة الأولى فعمادها ثلاث قبائل كبرى، جميعها ديارها تقع في الجزء الناظم للحدود التشادية السودانية، ولها امتداداتها التشادية، لكنما أغلبيتها في السودان وكذا شيوخها، وهي الزغاوة، 61% من عديدها سوداني، و 30% تشادي، و 10% ليبي، وتقطن شمالي دارفور، والفور في وسط دارفور وعديدها السوداني 65% والتشادي 35%، والمساليت الذين منهم 60% في السودان و 40% في تشاد، وهي قبائل عابرة للحدود وعابرة أيضاً من حيث المشاركة في التمرد في أي من البلدين، أما الولاء عندها فغالباً هو لزعيم القبيلة أولاً.
ومن مفارقات الواقع الحدودي هذا بين السودان وجواره الإفريقي أن التشابك القبلي على جانبيه يفرض وقائع غير معتادة خارج القارة، مثل ما كان خلال الحرب الأهلية التشادية من انسحاب للفصائل المحاربة بكامل عتادها وعديدها إلى داخل السودان، وعندما انهار النظام في إمبراطورية إفريقيا الوسطى انسحب جيشها بكامل أسلحته أيضاً إلى داخل السودان، ومثلهما فعلت أيضاً الميليشيات التي سلحتها الجماهيرية في تشاد ذات يوم. إلى جانب تعرض الإقليم لنشاطات تجارة الأسلحة الدولية العابرة للحدود وواسعة النطاق، الأمر الذي جعل الإقليم مستودع أسلحةٍ لا ينفد، يضاف إلى هذا مفارقة أخرى لها علاقة بطبيعة وظروف قاطني المنطقة و خصوصياتها، وهي أن الحكومة في مواجهة التمرد لجأت إلى تسليح ما يعرف بالجنجويد، أو راكبي الخيول، فانتشر هؤلاء، وهم بدورهم يتكونون من عديد الفصائل، بأسلحتهم في الغابات وبدأوا في فرض شروطهم على الحكومة التي سلحتهم!
إذا هناك علاقة وطيدة بين حالة التمرد والواقع القبلي المحلي، دخلت عليه وحاولت توظيفه عوامل خارجية عديدة... من هم المتمردون ومن هم حلفاء التمرد وداعموه أو مشجعوه؟
للإجابة لا بد لنا هنا من التمهيد لها بالقول، إن الإقليم يختزن، أو جنوبه تحديداً، ثروات باطنية هائلة مطمورة تحت رماله، ومن ذلك، ما يعادل 6 مليون طن من خام اليورانيوم ترقد عليها تلال جبل مرة، ورابع أكبر مخزون نحاس في العالم يكمن جنوبي دارفور، إلى جانب كميات كبيرة من النفط الخام، الأمر الذي جعل في مقدمة حلفاء ورعاة وداعمي التمرد يأتي الفرنسيون والبريطانيون والأمريكان... طبعاً إلى جانب إسرائيل الساعية وفق الاستراتيجية الصهيونية كما هو معروف إلى تفتيت العالم العربي. ثم يأتي دور الحكومة التشادية التي يسيطر عليها النفوذ الفرنسي والإسرائيلي ويوجهها، والمسيطرة بدورها على حركات التمرد والموجهة لها.
وإضافة إلى هؤلاء، يمكن ذكر حلفاء داخليين للتمرد، مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوبية المتمردة، التي لطالما حاولت الإفادة من تمرد دارفور في صراعها مع المركز في الخرطوم، والمعلوم أن زعيمها الراحل الدكتور جون غرنق قد خطط في مطلع التسعينيات إلى فتح جبهة حرب جديدة ضد الحكومة في دارفور، حيث أرسل حملة مكونة من عشرة آلاف مقاتل إلى هناك، لكنما نجاح الجيش السوداني حينها في القضاء على الحملة قبل وصولها إلى مرتفعات جبال مرة أفشل المخطط. أما من هم موضوعياً الحلفاء الآخرون، فهم بعض أطراف المعارضة السودانية التي في صراعها مع الحكومة على السلطة تحاول توظيف التمرد في معاركها السياسية دون التوقف كما ينبغي وكما يفترض أمام خطره على مستقبل البلد برمته... من هم المتمردون؟
من أهم عناوينهم فصيلان هما "حركة العدل والمساواة" وزعيمها الدكتور خليل، وغالبية منتسبيها هم من قبيلة الزغاوة أو ذات القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس التشادي إدريس دبي، وبرنامجها إسلامي الطابع، يعود إلى مدرسة الترابي وأتباعها في غالبهم كانوا من أتباعه. والحركة الشعبية لتحرير السودان، وزعيمها مني أركيناوي، وهي علمانية الطابع وتضم إسلاميين يوصفون بالمعتدلين، وهي كانت وطيدة العلاقة مع الحركة الجنوبية التي كانت قد دربت وسلّحت عناصرها، كما تشاركها نفس العقيدة العسكرية، والبرنامج والدستور، وأيضاً الحلفاء. وهنا يجب أن لا يغيب عن الذهن أن الجنوبيين حاولوا جهدهم، وكما أشرنا آنفاً، توظيف صراع دارفور في مفاوضات نيفاشا. وهذه الحركة اليوم غدت أجنحةً عديدة. جميعها يمكن نسبتها إلى قبيلة الفور، وبدرجة أقل المساليت.
وإذا ما تحدثنا عن التمرد ومن هم المتمردون، فيجب استحضار دور النظام التشادي المهم حيال استمرار اندلاعه، و النظر لظروف هذا النظام المتعلقة به وتأثيره في المسألة، وهنا، والحالة هذه، يجب عدم إغفال كونه يواجه معارضة مسلحة داخلية شبه دائمة، وعليه، ولكي يحظى بدعم كلٍ من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، وتعاطف الغرب عموماً، فلا بد له من تسعير العداء مع النظام السوداني الحالي ذي اللمسة الإسلامية، كوسيلة مفيدة لاستدرار المزيد من الدعم من جبهة داعميه هؤلاء. ثم حقيقة أن الدعم العسكري الذي يصل إلى المتمردين السودانيين عبر انجامينا يذهب جلّه إلى جيبها، وقليله لحلفائها المتمردين الدارفوريين. فضلاً عما يشاع من علاقة للرئيس إدريس دبي مع تجار الأسلحة الدوليين المحاولين الإفادة من سوق الجرح السوداني المفتوح... والسؤال السوداني الآن. ما هي احتمالات السلام في دارفور؟!
دون أن نهمل ما قاله اللواء النيجيري مارتن لوثر أغواي، قائد ما يسمى القوة الأممية الأفريقية الهجين، وهو يودع رمال دارفور، علينا أن لا ننسى أن حركات التمرد هناك لم تعد تملك قرارها، لأنها غدت تمثل تماماً أطراف الصراع الحقيقيين. وعليه، فالأمر في جوهره ليس بيدها... وأخيراً، هناك خطر انفصال يلوح في جنوب السودان، أما في غربه فتدار عملية استنزاف للبلد لا تقل خطورةً عن الانفصال، وهي موضوعياً عامل مساعد له.
السودان، وباقي بؤر التوتر الست ورابطها الجنوبي
لا تقتصر بؤر التوتر ذات التأثير بعيد المدى، على مستقبل السودان، ووحدته واتجاهات مصيره، أو تماسك موزاييك تنويعاته المتعددة في خارطته الثرية الراهنة، على ما كنا تعرضنا لها في المقالات السابقة. أي على تلك البؤر الثلاث التي استوطنت جنوبه وغربه وشرقه. وإنما يمكن إضافة ثلاث أخرى لها، لسوف نتعرض لها مجتمعة في هذا المقال الأخير حول السودان. اثنتان منها شهدتا تمردين عسكريين، خمدا الآن، أو أخمدتهما المتغيرات التي طرأت على العوامل الداخلية والخارجية، التي كانت قد أشعلت فتائلهما ثم أطفأتهما إلى حين عندما تبدّلت، وبالتالي أسهمت هذه المتغيرات فيما يعرف باتفاقات السلام التي عقدت بين الحكومة المركزية في الخرطوم ومتمرديهما. أي تماماً شأنهما شأن ما جرى مع متمردي الشرق. أما الثالثة فثقافية السمة لم تصل بعد إلى حدود العنف المسلح، لجملة من السمات والظروف المختلفة المحيطة بها، وإنما إلى ما هو من الممكن وصفه بحالة من التبرم، الذي قد لا يقل بتعاضده مع سواه خطورة في المستقبل على النسيج السوداني الثري وعروبة هذا القطر ذي الخصوصية الفريدة.
وإجمالاً، فإن كل بؤرة من بؤر التوتر الست في الجسد السوداني المترامي هذه لها خصوصيتها وظروفها، وإن كان قد غذّاها جميعاً وأسهم في بعثها وكان المحرض المباشر لها طوال الحقبة الماضية طرف واحد هي مرتبطة أو وثيقة الصلة به. إنه التمرد في الجنوب، هذا الذي رأى في بعث سواه من التمردات عوامل ضغط مساعدة له في مواجهة المركز وإضعافه، فالذي يسهّل بالتالي له تحقيق أهدافه. ويمكن القول إن مستقبل جنوب السودان إن كان وحدة أم انفصالاً، أو مستقبل اتفاق نيفاشا، سيكون له الأثر البعيد في إطفاء باقي البؤر الخمس أو إذكائها.
هذه البؤر الثلاث التي لم نعرض لها سابقاً هي ما يعرف بجبال الأنغسنا، في جنوب النيل الأزرق، أو على مدخله إلى أراضي السودان من حيث الحدود الأثيوبية، وجبال النوبة، المحاذية لمنطقة أبيي شمالاً، التي تشكل الأخيرة حلقة الوصل لها مع الجنوب. ثم منطقة النوبا المعروفة في شمال السودان وجنوب مصر والواقعة على الحدود فيما بينهما وتوغل في البلدين جنوباً وشمالاً. الاثنتان، الأنغستا وجبال النوبا، التي يقطنها النوباويون، المختلفون عن النوبيين، شهدتا، كما هو معروف، تمرداً عسكرياً، أما الثالثة، أو بلاد النوبة فاقتصر الأمر، كما أشرنا ووصفنا، على نوع من التمرد الثقافي، وتنفرد عن سابقتيها بأن تململها الثقافي لا زال مستمراً، وإن خبت جذوته قليلاً من جراء اختلاف حال العوامل المؤثرة الأخرى المشار إليها بدايةً... وحيث لا اتفاقات أو حلول تمت مع المركز، وذلك لاختلاف طبيعة المسألة وظروفها وحجمها أو تأثيرها، أو موقعها وترتيبها في أولويات صراع هذا المركز مع أطرافه، وليس لعدم جديتها... ولنعرض لهذا البؤر الثلاث واحدةً واحدة:
تقطن منطقة جنوب النيل الأزرق مجموعات عرقية أربع هي الفونج والعرب والأنغسنا والمابان، الأولى زنجية مسلمة وتشكل مع العرب المسلمين الغالبية السكانية، والاثنتان الباقيتان هما زنجيتان وثنيتان. وتاريخياً شهدت المنطقة ما عرف بمملكة الفونج، هؤلاء الذين كانوا بتحالفهم مع العرب المعروفين بالعبد اللاب ضد الممالك النوبية المسيحية قد حسموا عروبة السودان، أما التمرد فقد بدأ فيها عندما أسس جون غرنق زعيم حركة التمرد الجنوبية فرعاً لحركته في المنطقة، أطلق عليه وارتو، أو مربع الحرب الثاني، وساعده على هذا تواجده على مقربة حيث الطرف الأثيوبي للحدود، الذي وفرته له سياسة أديس أبابا الداعمة والراعية لحركته في حينه، إبان نظام منغستو هيلا مريم، ليسهم سقوط نظامه فيما بعد، واتفاق نيفاشا لاحقاً، في عزل هذه البؤرة وساعد على خبوها، وحيث اكتفى هذا الاتفاق بإعطائها وضعاً خاصاً في حالة اختار الجنوب الانفصال في الاستفتاء المنصوص عليه في نهاية المرحلة الانتقالية المقتربة.
أما جبال النوبا، فهي مزيج من قبائل زنجية وعربية غالبيتها مسلمة، إلى جانب أقلية مسيحية وأخرى وثنية، ويقطن النوباويون المناطق الجبلية المرتفعة التي يشهد وسطها وجنوبها حالة التمرد، أما العرب من قبائل المسيرية والزريقات والحوازمة، المعارضون للتمرد، فيقطنون السفوح المحيطة. أما بوادر التمرد فنشأت عندما أسس الأب فيليب عباس غبوش حركة قومية اجتماعية وقادها. أطلق عليها الحزب القومي السوداني، ومن المعروف أن النميري حاكم السودان في حينه قد حكم عليه بالإعدام ثم عفا عنه، وبعدها نشأت حركة ذات نزوع يساري أطلق عليها اتحاد جبال النوبا، بيد أن الحالة شهدت تطورها اللاحق عندما اعتمد جون غرنق على اليسار والوسط المسيحي في إنشاء فرع لحركته هناك، أو ذات الأمر الذي فعله في جبال الأنغسنا، وكان بقيادة يوسف كوه مكي، انقسم فيما بعد إلى قسمين، أحدهما ظل موالياً لغرنق بقيادة مكي، والآخر انحاز إلى جانب الحكومة المركزية بقيادة محمد هارون كافي. كما، شهد هذا التمرد مثله مثل مثيله في جبال الأنغسنا خاتمة نيفاشية أيضاً، حيث رسمت الاتفاقية مع الجنوبيين وضعاً خاصاً لجبال النوبا مشابه لجبال الأنغسنا، كما أسهم في مثل هذه النهاية أن المنطقة برمتها يحول بينها والجنوب محيط بدوي عربي ليس في وارده قبول مساومة على وحدة السودان وعروبته وإسلامه.
أما البؤرة الأخيرة، ذات السمة الثقافية، فهي بلاد النوبا شمالي السودان أو المنطقة التي تشطرها الحدود السياسية الراهنة للقطرين السوداني والمصري، حيث تعيش في الطرف السوداني ثلاث مجموعات نوبية تعددت لهجاتها المنتمية للغة واحدة وثقافة واحدة ضاربة الجذور في التاريخ، هي، الدناقلة جنوباً، والسكوت - المحس وسطاً، والفيدجا في أقصى الشمال، والأخيرة ثلثاها على الجانب المصري من الحدود. ويقال إن المشكلة قد بدأت في مصر، حيث لعهود لم يعرفها السودان، بل إن المهدي الذي تنسب له الثورة المهدية ذات الأثر البعيد في التكوين السوداني الراهن، وامتدادتها الموروثة المتمثلة في حزب الأنصار بقيادة زعيمة الحالي الصادق المهدي، هو نوبي، وأن عبد الله الخليل أول رئيس للسودان بعد الاستقلال والرئيسين العسكريين إبراهيم عبود وجعفر النميري هم نوبيون دناقلة، وتقليدياً يظل حوالي نصف مجلس الوزراء السوداني وكبار الضباط نوبيين.
ومجموعة الدناقلة تتسم راهناً بتوجهها الإسلامي إلى جانب وجود نفوذ تقليدي للمهدية لا زال فاعلاً. إلى جانب تيار يساري يمثله الحزب الشيوعي السوداني يتوزع تأثيره هنا وهناك في سائر مناطق النوبة. من هنا، يمكن القول، إنه لا مشكلة سياسية هنا، بقدر ما هي ثقافية نخبوية، مصدرها حركة إحياء ثقافي قديمة عابرة للحدود ناشطة على طرفيها المصري والسوداني يقتصر تأثيرها على النخبة ورهن وسطها المنادي بالتركيز على الثقافة النوبية التاريخية، بلغت حدتها بإنشاء حركة كوش ذات النزعة القومية الاجتماعية التي أسسها زعيمها الدكتور تيسير، العضو في حركة غرنق، وبتشجيع من الأخير للهدف إياه فتح جبهة مساندة لتمرده الجنوبي في الشمال، بيد أن الكوشيون هؤلاء نأوا بأنفسهم فيما بعد عن غرنق بعيد اتفاق نيفاشا، الذي لم يلحظ أي وضع لهم في السلام الموعود، واكتفوا بالتركيز على إحياء الثقافة النوبية التاريخية، لكن خطورة مثل هذه الظاهرة المتلطية وراء الثقافة الموروثة، تكمن في كونها تلاقي رعاية ودعماً غربياً كبيراً، فيه لمسة توراتية تتسم بنظرة شبيهة بالنظرة إلى الآشوريين، تتحدث عن ما يدعى مملكة كوش التوراتية النوبية المعروفة في العبرية بـ"كوشيم"!
... وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه بتركيزنا على الأخطار التي تتهدد سودان العرب بما يعنيه للأمة العربية موقعاً ودوراً، أو دقنا لجرس الإنذار عبر المقالات الأربع التي نأتي هنا إلى آخرها، لا يعني أبداً انتفاء تفاؤلنا بنجاح السودان في اجتياز عواقب مثل هذه الأخطار وتغلبه عليها، لا سيما وأن نسيج هذا البلد المتعدد المتنوع لا تنظم عقده إلا عروبته الغالبة وإسلامه العميق، ولا تصوغ تكوينه وتؤطره وتعطيه هويته وتحميها إلا ثقافته العربية الإسلامية الراسخة. وعليه، فلا خيار له إلا حفاظه عليها كضرورة. وباستثناء أم مشاكله في الجنوب ورافعتها، فإن سائر المشاكل الخمس تظل في حكم الهامشية على تفاوت خطورتها وعلاقتها بهذه المشكلة الأم، ويظل مصيرها محكوم بالحل. لكن السؤال يظل هو السؤال: وماذا يفعل العرب أو سوف يفعلون لحماية سودانهم من أخطار التشرذم المبيت الذي يسعى أعداء الأمة مجتمعين له؟
متى ينظرون بجدية أكثر لمشاكل السودان؟ هل لهم أن يحاولوا فهمها أو دراستها بعمق قبل اتخاذ مواقفهم السياسية المطلوبة حيال ما يجري هناك؟ وباختصار، ما مدى إحساسهم بمسؤوليتهم إزاء ضرورة الإجابة على كل هذه الأسئلة؟
... هنا، يؤسفنا التذكير بمفارقة مؤلمة، وهي أن بعضاً من قوات غرنق المتمردة، في مرحلة من المراحل التي كان يرفع فيها راية ماركسية، ويقيم أوسع العلاقة مع الصهيونية، ويتلقى الدعم من الكنائس التبشيرية الغربية، قد تلقت تدريباتها القتالية في ما كان اليمن الديموقراطي قبل الوحدة اليمنية... وأن المتمردين تمكنوا في مرحلة من الحرب من إسقاط عشرات الطائرات السودانية باستخدامهم المفاجئ حينها لصواريخ سام سبعة ليبية المصدر! |
|
| |
|