انتخابات السودان، خطوة هامة نحو بناء الديمقراطية والحفاظ على وحدة البلاد
يقف السودان هذه الأيام أمام منعطف هام في تاريخه الحديث، سياسيون وخبراء يرون في الانتخابات الأخيرة (نيسان 2010) بأنها مؤشر ايجابي نحو بناء الديمقراطية، وآخرون رأوا أنها تفتح أبواب انشطار الجنوب على مصراعيه، وهناك من يتحدث عن محاولة استحداث الشرعية! ورغم ما يقال، فهناك إجماع بأن عملية الانتخابات هي خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن حزب المؤتمر الوطني وزعيمه الرئيس عمر البشير سينجح هذه المرة في بناء أسس جديدة في البلاد تؤدي الى انفراج وتعددية في ظل سيطرة وقيادة حزبه الحاكم على مقاليد البلاد، من أمنها الى اقتصادها، الى منظماتها المدنية، وأجهزتها الإعلامية ومؤسساتها العامة، ومن المؤكد أن أي عملية انتخابات في العالم تعطي الحزب الحاكم ميزة كبيرة.في السودان، كل حكام الولايات الـ 26، ما عدا الواقعة في الجنوب، ينتمون الى المؤتمر الوطني، وكذلك الأمر بالنسبة الى الوزراء ونواب البرلمان والمحليات، وحتى أجهزة الأمن، والبيئة الانتخابية التي تهيمن على البلاد هي لصالح حزب المؤتمر الوطني.وكثير من المراقبين السياسيين وقادة الأحزاب السياسية يرون في الانتخابات أنها مؤشر ايجابي وانحناءة من الحزب الحاكم، واستجابة للضغوط، وكسر حاجز الخوف من قلوب المعارضين وإطلاق ألسنتهم بانتقادات عنيفة. أحزاب المعارضة
أما أصحاب التيار الثاني، فإنهم يرون هذه الانتخابات في غاية الخطورة، والنتائج ستكون تقسيمية.رئيس حزب الأمة وأحد مرشحي الرئاسة المنسحبين، الصادق المهدي، رفض نتائج الانتخابات مسبقاً، وقال، إن موقف المكتب السياسي لحزب الأمة كان الأقرب للمشاركة في الانتخابات، وكذلك فعل مبارك الفاضل زعيم حزب الأمة (الإصلاح والتجديد) وقال، إنه لن يخوض انتخابات محسومة النتائج لصالح خصمه المؤتمر الوطني الحاكم، وقاطع الانتخابات الحزب الشيوعي، وامتنعت الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي شاركت في حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها من المشاركة في الانتخابات في ولايات شمال البلاد مكتفية بالمشاركة في ولايات الجنوب بعد أن سحبت مرشحها ياسر عرمان من الانتخابات الرئاسية.وهناك رأي آخر يقوده حاتم السر مرشح الحزب الاتحاد الديمقراطي المعارض الذي يقوده محمد عثمان الميرغني وهو أحد أكبر حزبين معارضين في السودان، إذ قال السر: "نحن قررنا المشاركة لمراقبة هذه الانتخابات وحراستها، ونحن نعتبر هذه الانتخابات مصيرية وخطيرة، بل وأخطر انتخابات في تاريخ السودان، وستؤثر نتائجها على مستقبل السودان، وبالتالي نريد أن نكون حاضرين وشاهدين عليها، وموجودين في جهة اتخاذ القرار سواء في الجهاز التنفيذي أو التشريعي، حتى نحول دون وقوع الانفصال بأي شكل من الأشكال"، وهناك سبب آخر لمشاركته في هذه الانتخابات باعتبارها أتاحت لهم فرصة التواصل الجماهيري، وفور إعلان نتائج الانتخابات قال السر، إنه يرفض النتائج جملة وتفصيلاً وما يترتب عليها من خطوات لاحقة.وعبّر آخرون عن أهمية الانتخابات وضرورة خوضها، من أجل المشاركة في إدارة شؤون الدولة في الفترة المقبلة، وأن لا مخرج من الوضع الحالي نحو الأفضل، إلاّ عن طريق المشاركة، والخلافات والاتهامات بين الأحزاب والمؤتمر الوطني ليست جديدة، فهي أزمة موروثة، ومن المهم توسيع هامش الحريات خاصة أن قانون الانتخابات الحالي يراعي كل القواعد المرعية والموجودة في العالم، وكان على القوى السياسية الضغط من خلال هذا القانون لتحقيق مكاسب.والصوت الخارجي جاء متناغماً مع المناضلين بالتمسك بالخطوة وتوسيعها والاستفادة منها، الخارجية الأميركية قالت، إن الانتخابات السودانية في حد ذاتها خطوة الى الأمام، وذهب في الاتجاه نفسه موفد الرئيس اوباما الى السودان سكوت غرايشن الذي أشاد بالخطوة وقال إنها تسير وفق ما رسم لها، واعتبرت رئيسة بعثة مراقبي الاتحاد الأوروبي لمتابعة الانتخابات السودانية دي كيزير الانتخابات (خطوة كبيرة) الى الأمام، ومراقبون غربيون: يرون أن انتخابات السودان لا ترقى للمعايير الدولية، ولكنها ستلقى اعترافاً دولياً.والسؤال، ماذا بعد فوز المؤتمر الوطني، هل سيزيد هذا الفوز من سيطرته على مقاليد السلطة، أم يفتح الباب أمام أحزاب المعارضة؟ وهل ما يمنحه من مشاركة للمعارضين سيكون كافياً لتعزيز خطوة الديمقراطية؟ نتائج انتخابات السودان
أعلنت المفوضية القومية للانتخابات، أن نسبة المشاركة فاقت 60 % في أول انتخابات تعددية تشهدها البلاد منذ 24 سنة، وعدد الناخبين المسجلين البالغ قرابة 16 مليوناً، ما يشكل نسبة 79 في المئة ممن يحق لهم التصويت.في الشمال سجّل الناخبون خياراتهم على ثماني بطاقات لاختيار الرئيس وحاكم الولايات وأعضاء المجلس الوطني والنساء في المجلس وقوائم الأحزاب والمجلس المحلي، والعملية كانت أكثر صعوبة في الجنوب حيث نسبة الأمية تفوق 70 % وحيث تعيّن على الناخبين كذلك اختيار رئيس حكومة الجنوب وأعضاء برلمان الجنوب وقائمتي الأحزاب والنساء.وبانتهاء هذه الانتخابات التي ضمن الرئيس عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ 21 سنة الفوز فيها، وحصد 94 % من الأصوات، يصبح السودان مهيأ للانتقال الى المرحلة التالية من اتفاق السلام التي ستفضي الى تنظيم استفتاء تقرير المصير في الجنوب مطلع 2011.وأسفرت الانتخابات عن فوز الرئيس عمر البشير بولاية جديدة مدتها خمس سنوات، وبقاء سلفاكير ميارديت رئيساً لجنوب السودان شبه المستقل. وما يلفت الانتباه هو ارتفاع نسبة المشاركين في المناطق الريفية حيث وصلت نسبة التصويت الى 80 %.وأعرب مستشار الرئيس السوداني غازي صلاح الدين العتباني عن أسفه لعدم مشاركة عدد من أحزاب المعارضة في الانتخابات لكنه قال:"أعتقد ليس المهم مشاركة الأسماء الكبيرة وإنما نسبة المشاركة، ومد يديه الى المعارضة عارضاً عليها المشاركة في حكومة وحدة وطنية".وقال:"لقد كان موقفنا واضحاً بأنه أمام التحديات التي تواجه الأمة، لن نسعى الى تشكيل حكومة من حزب واحد، نريد لحكومتنا أن تكون أوسع ما يمكن ونوجه الدعوة الى الأحزاب كافة حتى تلك التي لم تشارك في الانتخابات، لأننا نؤمن بأننا نمر في مرحلة حرجة من تاريخنا"وحذر العتباني المعارضة من (عزلة) بعد أن اعترف الفاعلون الدوليون والمؤسسات الدولية بالانتخابات فهذا يعني أن الحكومة معترف بها. الفرصة سانحة لوضع أفضل في السودان
كانت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) التي وقعت بين المؤتمر الوطني الحاكم (الحركة الإسلامية سابقاً) والحركة الشعبية لتحرير السودان مطلع 2005، هي الفرصة الأمثل لبقاء السودان موحداً، ومتجاوزاً لأزماته المزمنة، وجاءت نصوص الاتفاقية مملوءة بوعود السلام والتحول الديمقراطي والتنمية والوحدة الوطنية.واعتبر حزب المؤتمر الوطني أن اتفاقية السلام أعطته شرعية هامة وبغطاء دولي، كان يبحث عنها منذ 30 حزيران 1989، وصار بإمكانه أن يحكم لمدة ست سنوات جديدة، وتحت ظروف أفضل، بلا حرب أهلية، وهذا ما مكنه من تطوير الأجهزة الأمنية والسيطرة على المؤسسات الاقتصادية والإعلامية، ورفع الدولة يدها عن مسؤولية التعليم والصحة الى القادرين مادياً في الحركة الإسلامية كأفراد أو شركات بعد عملية الخصخصة.والحركة الشعبية بدورها رأت في اتفاقية السلام الشاملة، تمريناً على حكم جنوب السودان منفردة، وعلى أرض الواقع تم تطبيق اتفاقية أخرى غير تلك التي وقعت في نيفاشا، وبدت كأنها اتفقت مع المؤتمر الوطني، بأن يترك الجنوب بلا منافسة للحركة.وقد ظهر هذا التواطؤ جلياً في الحركة الشعبية من عملية التحول الديمقراطي والتي تعتبر من أهم مستحقات الاتفاقية، فقد كانت الديمقراطية في مقدم شروط السلام، وما الأزمة الراهنة في السودان إلا إحدى نتائج التقاعس في إكمال التحول الديمقراطي كما يجب.عزلت الحركة الشعبية نفسها بعد الاتفاقية عن حلفائها التقليديين التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، والذي وقّعت معه ميثاق مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا عام 1995، وهي وثيقة ممتازة ذات رؤية ثاقبة لكل مشاكل الوطن، وبدأ التخلي عن الحلفاء حيث ذهبت الحركة منفردة للتفاوض مع الحكومة، ومع ازدياد وعزلة الحركة، أمعن المؤتمر الوطني في الضغط عليها، وتعرضت العلاقة للتوتر، وهددت الحركة بفض الشراكة عام 2007 متهمة المؤتمر الوطني بالاستعداد للحرب، والتلاعب في حسابات البترول ودعم الميليشيات في الجنوب، ولم يعمل الشريكان على إنجاز التحول الديمقراطي. ما هو موقف الولايات المتحدة؟
وحين تدخلت الولايات المتحدة مباشرة، لحل خلافات الشريكين لم تبد أي حماسة قوية، وحين عرضت بعض القوانين المقيدة للحرية تشدد في معارضتها بعض عناصر الحركة، عمل المبعوث الأميركي على تليين مواقف الحركة خشية أن يضر ذلك بالاتفاقية، وأصرت الولايات المتحدة على إنجاز الانتخابات ليس من باب الدفاع عن الديمقراطية في السودان، بل لأنها تخشى تأجيل الاستفتاء في الجنوب والذي لا بد من أن يجري تحت ظل حكومة منتخبة في جميع السودان وهدف أميركا الاستقرار بحسب تصورها الاستراتيجي لوضع المنطقة وفي حال الانفصال، سيتجه الوضع نحو الأسوأ في الشمال والجنوب معاً، وفي حال اختيار الوحدة، فنحن أمام اتفاق (نيفاشا 2) ضمن انتخابات معترف بها دولياً ولكنها شهدت معارضة العديد من القوى السياسية في البلاد.قبل عقدين، كان التعويل على عملية التحول الديمقراطي وعلى دور المجتمع المدني في إحياء وتحديد مسار الديمقراطية، وهي في وضع لا تحسد عليه، بعد أن أصبحت عبئاً على عملية التطور الديمقراطي بعد أن فضلت مصالحها المادية الضيقة وساعد على ذلك بعض المانحين في العالم الثالث.والوضع المتأزم في السودان رافقه عملية استنزاف واجتثاث للنخب المؤهلة، بعد أن فتحت أبواب الهجرة واللجوء، ثم تفريغ البلاد من صفوة مواطنيها، وهذا ما جعل من الصعب ظهور نخب جديدة قادرة على التغيير، ولا يخفى هنا دور العوامل الخارجية التي ساهمت في محاولة إضعاف السودان وإثارة الفتن وإشعال فتيل التناقضات الداخلية، والهدف من وراء ذلك، خلق مناخ ملائم لتدخل الدول الكبرى في شؤون السودان وخاصة موقف الولايات المتحدة الأميركية الباحثة عن ظروف أفضل لاستغلال الثروات النفطية في جنوب السودان والدخول في منافسة مع الصين التي وقّعت اتفاقيات نفطية هامة مع السودان. إجراء الاستفتاء على مصير الجنوب
الولايات المتحدة اليوم تتعامل مع النظام في السودان بطريقة براغماتية، أما الانتخابات في السودان، جاءت لاضطرار النظام الى إجراء استفتاء عام 2011 على مصير الجنوب، ولا بد أن تسبق الاستفتاء انتخابات عامة، لأن أطرافا من المعارضة متحالفة مع الجنوبيين، وجاءت الضغوط من المحكمة الجنائية الدولية على الرئيس عمر البشير لترغمه على تجديد شرعيته أو اختبارها بالانتخابات، وكذلك ينص اتفاق السلام الموقع في 2005 في نيفاشا على تنظيم الانتخابات الرئاسية والنيابية والإقليمية في كانون الثاني في 2011 ليقرر سكان جنوب السودان في شأن بقائهم ضمن السودان الموحد أو انفصالهم عنه".الحرب التي اندلعت في 1983 أدت الى سقوط نحو مليوني قتيل وتشريد أربعة ملايين، بسبب المعارك بين (الحركة الشعبية لتحرير السودان) والجيش والقوات السودانية، ويعيش في جنوب السودان تسعة ملايين شخص ينتمون الى قبائل متعددة تتعايش مع بعضها بصعوبة أحيانا.الرئيس السوداني عمر البشير أكد أخيراً، استناداً الى (استطلاع سري) كما قال (إن ثلاثين في المئة فقط من سكان الجنوب يؤيدون الانفصال)وإذا كان خيار الاستقلال يمكن أن يفوز بغالبية 50 % زائد صوت، فإنه يشترك مشاركة 65 % على الأقل من الناخبين في الاستفتاء.وحول الوضع في دارفور يرى البعض من غير المرجح أن تنهي الانتخابات الصراع، ويخشى الكثير من السكان هناك، أن تكون الانتخابات وسيلة للحكومة لتحافظ على الأوضاع كما هي مع التمتع بحصانة كاملة، ولكن مصادر الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لحفظ السلام رجحت عودة تدريجية للحياة الطبيعية وأن تشجع الحكومة على تبني تسوية عن طريق التفاوض، حيث يمكن للحكومة أن تمد يد الصداقة للأحزاب المعارضة التي قد تسهم كثيراً في تسهيل مفاوضات دارفور وإيجاد حلول مقبولة للجميع يتم من خلالها طي صفحة الماضي، وبداية مرحلة جديدة من الاستقرار في البلاد، والاستفادة من تجارب الماضي وصولاً الى بناء أسس جديدة من العلاقات بين مختلف مكونات السودان، وصولاً الى الحفاظ على وحدة البلاد ووضع حد لأطماع الذي ينتظرون تقسيم السودان وفصل جنوبه عن شماله، ومثل هؤلاء يسعون الى تحقيق أهدافهم على حساب عذابات أهل السودان وتحت مسميات واهية، ولتحقيق هذه الخطوة على كافة القوى السياسية في السودان تغليب المصلحة العامة على حساب المصالح الضيقة وقصيرة النظر، لأن ما يتهدد السودان هو أكبر بكثير، من التقسيم ونهب الثروات، السودان يمثل عمقاً قوياً لأمته من الناحية الاقتصادية والاستراتجية واستهداف السودان هو استهداف للأمة العربية والإسلامية.محمود صالح