فى صيف هذا العام سافر السيد | أحمد عبد الغفار وهو موظف بوزارة الصحة مع بعثة الحج إلى مكة .. ورجع من الحجاز بعد أن أدى فريضة الحج وفى يده ساعة جميلة اشتراها من سوق المدينة بعشرة جنيهات .
ولما شاهدها زملاؤه فى المكتب أعجبوا بها وأخذوا يتحدثون عنها فقد كانت الساعة ثمينة حقا وشكلها غريبا .
وكان صاحبها يتيه بها ويعتز إذ مع ما فى شكلها من غرابة فإنها لاتخل ثانية واحدة وكان يزهو ويقول مبتسما لأصحابه أنه يحمل بج بن صغيرة فى يده .
وكانت الساعة إذا قورنت بغيرها من الساعات تعتبر عديمة النظير .
وبعد شهر واحد من عودة الحاج أحمد أصبحت الساعة حديث الجميع .. ومنهم من كان يضيف على محاسنها أشياء كثيرة من عنده حتى دون أن يراها .
والذى كان غائبا عن الديوان من الموظفين فى عمل مصلحى أو فى أجازة ثم رجع ، كان زملاؤه يسألونه قبل أى شىء :
ـ هل رأيت ساعة الحاج عبد الغفار ؟
ـ ما لها ..؟
ـ اذهب لترى أدق وأعجب ما صنعه الإنسان ..
ـ صحيح ..؟
ـ ميناء صغيرة ودقيقة فى حجم المليم .. ترى فى وجهها الثانية والدقيقة والساعة .. واليوم .. والشهر .. والسنة ..
ـ ان هذا عجيب ..!!
ـ مع هذا فإنها لاتملأ قط .. وانما الحركة وحدها تملأ الزمبلك ..
ـ عجبا ..
ـ وتتحمل كل ضغط .. وتسبح بها فى الماء .. وتدخل النار وتخرج منها سليمة ..
ـ ياسلام ..
ـ أضف إلى ذلك أنها ناطقة وتوقظ الحاج أحمد ليصلى الفجر حاضرا .. وتبرق فى الظلمة بريق الماس ..
وكأنما أصاب صاحبها الحسد .. فقد تركها يوما فى درج مكتبه بالوزارة .. وذهب إلى دورة المياه .. ولما رجع لم يجدها ..
وصعق الموظفون لما علموا بالخبر .. فقد كانت الساعة عزيزة عليهم جميعا ..
وكان المكتب هادئا .. ولايدخله الغرباء قط .. ولم تحدث فيه سرقة أبدا ..
الموظفون فى كل يوم يخلعون ستراتهم ويعلقونها على المشاجب .. ويتركون فى جيوبهم المحافظ والأقلام الذهبية وما ضاع شىء منها أبدا .. فكيف يحدث هذا .. وكيف تسرق الساعة وأخذ الموظفون ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض وقد وجموا وتصلبت ملامحهم .. وكانوا بعد الانتفاضة الأولى قد وجموا وجمدت وجوههم .. كأنما مر فى أجسامهم سيال كهربى واحد .. هزهم هزة عنيفة .. ثم تركهم إلى الموت .
ولما استفاقوا من الغاشية التى نزلت عليهم .. أخذوا يسترجعون فى أذهانهم كل من دخل المكتب فى الفترة التى غاب فيها الحاج أحمد ..
كان الفراش زهران قد دخل بالقهوة التى اعتاد أن يوزعها فى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر .
ووضع أول فنجان على مكتب السيد همام الذى كان يتحدث فى التليفون فى تلك اللحظة مع بقال قريب من بيته .. ليسأل عن ابنه الوحيد وقد أصيب منذ اسبوع بشلل الإطفال .. وكان قد لوعه الأمر وطير لبه .. وكان فى كل يوم يأتى له بدواء جديد حتى أثقلته الديون .. وكان يدق للبقال فى كل ساعة ليأتى له بالخادم .. أو بزوجته على التليفون فيطمئن على صحة ابنه ..
والموظفون الثلاثة الآخرون كانوا منكبين فى العمل مستغرقين فيه فلم يتحركوا من أماكنهم .. ولم يحسوا بالسرقة إلا بعد أن سمعوا بها .. من موظف الأرشيف .. وهو يضع على مكاتبهم الأوراق التى وردت فى فترة الضحى .. وكان هناك رجل واحد قد جاء من الخارج ودخل الغرفة فى فترة غياب الحاج أحمد .. ثم خرج .. رجل اعتاد أن يحمل لهم بعض الأشياء التى يتسوقها من سوق غزة .. كالأقلام والمناديل والجوارب " والكرافتات " ويمر عليهم فى الشهر مرة ..
وكان الموظفون يشفقون على الرجل لأنه عجوز .. ولأنه كان من قبل موظفا مثلهم .. ولما أحيل إلى المعاش .. اشتغل بهذه التجارة الخفيفة .. وأصبح يدور على الدواوين ليحفظ مستوى المعيشة لبيته كما كان ..
وكان الرجل أمينا وصادقا فى معاملاته معهم .. ويرضى بأن يبيع لهم بالأجل وبالتقسيط .
ومع كل صفاته فإنهم شكوا فيه .. لأنه تاجر .. ومن السهل عليه أن يأخذ الساعة فى ساعة ضعف .. لحظة خاطفة يضعف فيها الإنسان أمام إغراء الشيطان .. واتهموه فعلا وبعثوا من جرى وراءه وسأله عن الساعة قبل أن يخرج من باب الديوان .. وهو يحس بالخنجر الذى صوب إليه فى شيخوخته .
واتهموا بعد البائع الذى جاء من الخارج .. موظف الأرشيف الذى مر على المكاتب جميعا .. ثم الفراش .. الذى يرى ما فى داخل الأدراج .. وأخيرا حصروا التهمة فى الفراش لأنه أفقر الثلاثة .
وركزوا عيونهم عليه وأشعروه بالاتهام .. فانكره بقوة .. فماذا يفعلون وليس فى يدهم دليل ..
حاروا وأحسوا بالأسف لما حدث .. أحسوا .. أن لوح الزجاج الكبير الذى يمثل نصف الباب قد شرخ .. أصابه شرخ كبير منذ وقع الحادث ..
وكانوا يحسون أن شيئا تمزق فى داخل نفوسهم .. شيئا مر فى أجسامهم بقسوة وأصابهم بمثل حد السكين .. وكأن غماما أسود زحف عليهم ولطخ وجوههم جميعا .. ووصمة عار لحقت بهم .. فهزت كراسيهم .. وأصابت جو الحجرة بمثل الوباء .. فسممته ..
وبصرف النظر عن الفراش الفقير .. الذى تركزت عليه التهمة ولصقت به .. فإنهم كانوا يتصورون أن عينى الحاج أحمد تتهمانهم جميعا .. بالاهمال على الأقل .. لأنهم تركوا ساعة زميل لهم تضيع إلى الأبد .. وتسرق فى لحظة خاطفة .
كان صاحب الساعة فى الواقع يبكى فى أعماقه صامتا .. ثم ترك عوضه على الله .. وحاول أن ينسى ما حدث ..
***
وشغل الفراش بالاتهام وحز فى نفسه أن يتهم بالسرقة بعد خدمة ثلاثين سنة كاملة لم ينحرف فيها قط ولم تضع فى خلالها من هذا المكتب ورقة واحدة .
وظل عقله يتأمل .. وعيناه تبحثان .. فى كل مكان حتى وجد الساعة مصادفة عند تاجر يشترى مثل هذه الأشياء ففرح واستردها منه بثلاثة جنيهات .. وما زال وراء التاجر حتى علم منه أوصاف الرجل الذى باع له الساعة وانطبقت الأوصاف تماما على السيد|همام الموظف بالمكتب .. وتألم الفراش وكتم الخبر ..
وأعاد الساعة إلى صاحبها .. وهو يحس بعمله هذا أنه ثبت التهمة على نفسه .. ولكنه أحس بالارتياح لأنه أزاح غمامة سوداء خيمت على المكتب ..
ولما سألوه أين وجدها وكيف استردها صمت .. وهو يحس بأن الاتهام موجه إليه وحده ثم انتحل لهم قصة مكذوبة فزاد التهمة التصاقا به .. ولكنه لم يبتئس .. ما دامت الساعة قد عادت إلى يد صاحبها .
***
وفى صباح يوم من أيام السبت حضر السيد | همام إلى المكتب متأخرا بعد أن حضر جميع الموظفين وكان فى حالة تعيسة .. وجلس إلى المكتب وهو يبكى .. وقال هامسا فى صوت تخنقه العبرات ..
ـ ولدى الوحيد مات .. ودفنته أمس .. مات بعد أن دخل جوفه الدواء الحرام .. سامحونى سامحنى ياحاج أحمد .. أنا مسكين ..
وتلفت الموظفون إليه فى ذهول ولم يفهموا شيئا .. كانوا يتصورونه يهذى وقد أصيب بالخبل لموت الغلام ..
وكان الفراش واقفا وسمع كلام الرجل وعرف معناه .. ولكنه ظل صامتا لم ينطق بحرف وظل السر مطويا بين جوانحه .. ولم يتحدث لإنسان عن سقطة السيد | همام .. وظل الموقف غامضا ..
كان يعرف الحزن الذى يعانيه الرجل والمحنة التى مرت به ولم يشأ أن يكشف السر فيصوب خنجرا داميا إلى قلب الأب المسكين ..