! الاخ عبد اللطيف مهناإنها ليست المرة الألى التي يسيل فيها الدم التركي من أجل فلسطين، لكنها الحالة المختلفة هذه المرة. كان قد استشهد ا
لعديدون من المناضلين الأتراك في صفوف الثورة الفلسطينية أيام عرفتهم وحفظت أسماءهم قواعدها من حول فلسطين. هذه المرة نحن إزاء “ذات الصواري” التركية ذات العنوان الفلسطيني. أبحر الدم التركي ماخراً عباب المتوسط قاصداً الشواطئ الفلسطيني الأسيرة. واجه أحفاد خير الدين مذبحة مرمرة المتوسطية، وعبر قرابينها عاد أحفاد محمد الفاتح إلى أنفسهم وذاتهم. قبضوا على زمام دورهم الذي كانوا قد هجروه منذ ما يقل قليلاً عن القرن. تنفّسوا في بيئتهم، فتصالحوا مع تاريخهم، وعادوا إلى جلودهم فعادت لهم هويتهم… والأهم، ونحن في هذا العصر، كان كل ما كان منهم منسجماً مع مصالحهم…
شيع الأتراك شهدائهم من مسجد “الفاتح”، وهذا يعني للضمير والوجدان التركي الكثير، وقال الإعلام التركي واصفاً الغضبة العارمة إنها: “تركيا تنتفض”، وكان هناك المغزى فيما بات يقوله وما يجدر التوقف عنده، من مثل قول أحد كتابه مخاطباً القراصنة القتلة: “إنكم تنسون أن الأرض التي تمشون عليها مروية بدماء الجنود الأتراك في العام 1917، ونحن لم ننسهم، ومنذ الخمسينات وأنتم تعربدون وتركية ساكنة. لكن الأمر مختلف، ولن يبقى شيء على ما هو، وهذه الأزمة لن تجد حلاً لها، وستحاسبون على ما اقترفت أيديكم”… كان فيما قاله يعبّر عن وجدان جماهير ميدان تقسيم وميدان بايزيد، التي هتفت: “إسرئيل عزرائيل”، وكانت القيادة التركية أيضاً منسجمة مع هذا الوجدان فعبرت بلغتها الرسمية عن ما اعتمل في داخله وترجمته على طريقتها ومن موقعها… وهنا وحسب يكمن سر الظاهرة التركية، وعلى صهوة هذه المتلازمة، يطل على المنطقة “العثمانيون الجدد”… استمع العالم إلى رئيس الوزراء، وقبله وزير الخارجية، ومن بعدهما رئيس الجمهورية. قال الأول مخاطباً القتلة القراصنة: مللنا من أكاذيبكم، وما قمتم به فعل “وقح… ودنيء”، وأنذرهم: إنه إنما “بقدر ما تكون صداقة تركيا قوية فإن عدائها أقوى”… وأسمع العالم من حوله: إن الإسرائيليين “يعرفون القتل جيداً… ومن يسكت على ما قامت به إسرائيل يكون شريكاً في جرائمها”… وقال رئيس الجمهورية، أن سابق العلاقات بين تركيا وسافكي دم مواطنيه في “موقعه مرمرة” لن تعود أبداً…
* * *
الأزمة التركية الإسرائيلية ليست وليدة للحظة التي سفكت فيها الوحشية الإسرائيلية دماء ناشطي أسطول الحرية الإنساني المتجهة إلى غزة هاشم، وإنما ربما هي بدأت منذ ذاك اليوم الذي تسنم فيه أردوغان سدة الحكم، وكانت أبرز وقائعها تلك المسطرة في ساح دافوس وتجلت فيما عرف في بلاد الأناضول بسياسة “ون مينيت”، ووقائع تلك الواقعة بين الزعيم التركي والداهية بيرز معروفة… وكانت الاتفاقية الثلاثية التركية – البرازيلية – الإيرانية، حول مسألة تبادل اليورانيوم المتعلق بملف البرنامج النووي الإيراني محطة بارزة من محطات هذا التأزم…بدأت الأزمة منذ كان أن تصالحت تركية مع تاريخها وجغرافيتها و التفتت إلى بيئتها فاستعادت هويتها وأمسكت بتلابيب دورها فأخذت في مراكمة غنائم مصالحها… حين حاولت قلب المعادلة التي كان الأتراك يتندرون حين توصيفها قائلين: كنا على رأس الشرق فأصبحنا في ذيل الغرب… تحقق الحلم وانقلبت المعادلة…والآن الأزمة إلى أين؟!
حدث التحول، لكنما كل غضبة لها حدودها، وكل سياسة تظل بمنأى عن ردود الفعل الآنية، ومهما تماهت مع الحالة الشعبية والجنوح الإستراتيجي تظل لها حساباتها، وتبقى رهن بميقاتها والمترتبات عليها. كل ما نراه ونسمعه ونلمسه من تركيا اليوم هو حقيقي لكنما في نهاية المطاف هو خاضع لميزان الواقع ومقاييس المصالح… يعلم الأتراك حق العلم، إنهم إنما بصدد مواجهة عالم يصح فيه ما يقوله هوغو تشافيز، حين عقّب على المجزرة قائلاً: “بما أن الأمر يتعلق بإسرائيل، فإن كل شيء مسموح به”… ويدركون قبل سواهم أن مذبحة البحر المتوسط ومشاهد القتل المبرمج فيها، إنما كان أمراً مدروساً وفعلاً مبيتاً… كانت انذاراً أمريكياً، أوغربياً إجمالاً، وجّه عبر قتلة “قوات النخبة” الإسرائيلية إليهم… رد إسرائيلي على دور تركي استجاب لخلطة من التاريخ والجغرافيا والهوية والمصالح والعودة إلى الذات… جريمة سارع أوباما لتغطيتها، وللحؤول دون إدانة إسرائيله التي ارتكبتها، ومن غير المستبعد أن كانت بضوء أخضر منه… فعلة هب الغرب مجتهداً لاستيعاب تداعياتها، وللحؤول دون كسر الحصار الهمجي على غزة، وذلك بالإيعاز بفتح معبر رفح، والكلام عن مقترحات لتخفيفه… أطلت علينا مجدداً “الرباعية” واكتحلت أعيننا بوجه السوء طوني بلير… ليس من السهل على أحفاد محمد الفاتح التخلص من ربقة ما يقل قليلاً عن القرن من التغريب وتشابك المصالح… أمريكياً، وأطلسياً، وأوروبياً… لكنما التحول بدأ والعودة التركية إلى تركيا أولاً لن تتوقف… إذن، فالصدام بات محتماً!
وعليه، لن تصل الأمور ذاك المدى الذي يحلم به الوجدان الشعبي العربي المنكسر الحاصد لعقود مهانة غياب الإرادة السياسية الرسمية، والذي تروقه فكرة انتظار خيول الترك البلق، مستعيداً فيما يروقه هذا يوم أن جاءت هذه الخيول منقذة آن كان الأسبان يهبطون على سواحل المتوسط العربية والبرتغاليون على أطراف جزيرة العرب… لعل كل ما كان عليهم، لوتأنوا، هو تمني أن يحرج دم العثمانيين الجدد عجز ورثة مماليك راهن العرب… فهل مثل هذا ما كان؟
لعل في لويا جرغا الجامعة العربية ما يقول لنا بخلاف ذلك… بخلافه، عندما احالت جامعة عمرو موسى أمرها إلى نخوة مجلس أمن أوباما، فجاءتهم فتاوى جو بايدن المحللة لدماء كاسري حصار غزتهم التي يشاركون معه ومع الإسرائيليين في خنقها… لم يسمعوا بخبر نيكاراغوا، وبوليفيا، والبيرو، وجنوب إفريقيا… ولا ما قاله شافيز:
“ملعونة أنت يا دولة إسرائيل. ملعونة أنت، إرهابية وقاتلة، يعيش الشعب الفلسطيني”… لم يجرؤ مماليكنا على أضعف الإيمان، الذي أقله كسر الحصار على غزة، ورفع غطائهم البالي الذي خلعوه على المفاوضات الاستسلامية البائسة..!
* * *
المذبحة التي لونت بالدم التركي زرقة المتوسط، كانت، وبلا جدال، فشلاً سياسياً وأمنياً واستخباراتياً إسرائيلياً، وصفها الإعلام الإسرائلي، الذي لم يعترض على همجيتها وإنما على ما جلبته لإسرائيل الأخطاء التي شابت إخراج عملية ارتكابها، بأنها “قرار غبي”… وهي إذ طرحت على كل أطراف هذا العالم سؤالاً مريعاً لا يمكنه الإشاحة عنه، وهو، وإلى متى تشيحون الوجه عن جريمة مستمرة منذ ما يقارب القرن، وبالتالي، إلى متى تشاركون فيها؟ فهي لم تقنع نتنياهو بأكثر من أن يرد ردود الأفعال الكونية عليها إلى كونها لا تعدو “حرب نفاق”، وكانت حرية لدى ليبرمان بأن يخاطب بان كي مون واصفاً له مجتمعه الدولي بأنه مجرد “منافق وملوّن”، كما لم تمنع مجرم مثل اسحاق أهارونوفيتش من إدانة ضحايا المذبحة “الذين تعرضوا للقوات الإسرائيلية”!!!
…إذن، الأمريكان، فلسفوا، وغطوا، والأطلسي بدلاً من أن يهب لنجدة عضو فيه سارع لتبرير ما وقع له… وعرب الجامعة وكلوا أمرهم إلى مجلس أمن أوباما الدولي… فماذا عن غزة؟
سفينة مرمرة غدت أنموذجاً حياً لحكاية اسمها غزة، وغزة المحاصرة طفقت تحاصر محاصريها… “مرمرة” وأخواتها تخلفهن الآن “راشيل كوري”… أسطول الحرية يتناسل أساطيلاً… غدت الفلسطنة هوية نضالية إنسانية كونية، وأصبحت فلسطين المرادف المعاصر لمعنى الحرية… غدت سبيل المسلم إلى الجنة، والمسيحي إلى خلاصه، واليهودي للبراء من صهيونيته… أرادوا إزالتها من الكون فتسطرت نقوشها على جبهة العصر، واستقرت في ضمير البشرية، وتربعت على عرش قيمها. وعندما سيّجوها بالدماء والأسوار أمتها الأفئدة بحراً… استفردوا بأهلها عندما تخلى عنهم أهلهم، فجاء البعيدون ليستشهدوا على شواطئها… أصبحت سيدة سيرة العرب وبوصلة مستقبلهم… غدت العروبة فلسطين… ومن كان معها، ولو كان من جزر ما بعد الأقيانوس أو من خلف جبال الأنديز أو قلب أدغال مدغشقر، هو أكثر فلسطنة من فلسطينيي التسوية، وأكثر عروبة من مسالمي أعدائها من العرب العاربة والمستعربة!
AKPC_IDS += "882,";