بقلم: عبد الستار قاسم
كلما طرح كاتب نقدا لنظام عربي تواجهه أقلام عدة موالية للسلطان بالتجريح والتشهير والسباب والشتائم، وفي أحسن الأحوال تطرح عليه سؤالا استنكاريا يقول: "وما هو البديل؟"، هذا سؤال يختصر التاريخ في اللحظة وكأنه توقف عن الحركة، وانتهى فقط عند ما يفعله القائد أو الزعيم الذي يوصف عادة بالملهم والرمز والمعلم الأول، إلخ.
لا يتم طرح السؤال بهدف انتظار الإجابة، وإنما لإيصال رسالة مفادها أن ما يفعله الزعيم هو الأنسب والأفضل، ولو رأت عبقريته غير ذلك لفعل. ولذلك فإن كل ما يطرحه مفكرون غير منافقين وحريصون على مصلحة الأمة هو -بالنسبة لمنافقي الزعيم- عبارة عن مثاليات لا تطبيق لها على أرض الواقع، أو مجرد فذلكات تهدف فقط إلى الإساءة للزعيم ومستوى أدائه في إدارة الشأن العام.
هذا ينطبق على الوضع الفلسطيني الذي يتمثل في سلطة تحمل عصا للناس بألوان غير فلسطينية، وتعمل دائما على قمع الرأي الآخر أو تغييبه حتى تبقى السياسة العامة حكرا لها ولمن يدعمها. لقد قدم مفكرون فلسطينيون ومثقفون حلولا لمشاكل كثيرة تواجهها الضفة الغربية وغزة، وعموم الشعب الفلسطيني، لكن لا يوجد من يسمعون، أو من يستمعون.
وتعتبر المشكلة الاقتصادية المالية أهم هذه المسائل التي تواجهها الضفة الغربية وتشل إرادتها السياسية. لقد تم توجيه انتقادات كثيرة للترتيبات الاقتصادية القائمة في الضفة الغربية -منذ أن قامت السلطة الفلسطينية- وتم تقديم حلول لمختلف القضايا الاقتصادية والمالية، لكن رغبة في مناقشة مختلف الأفكار لم تتبلور، وبقيت كل المقترحات حبيسة الأدراج.
لقد سبق أن طرحْتُ أن غياب الرغبة هذا مرتبط بغياب الإرادة السياسية التي تطوع فلسطينيون بتغييبها لقاء مصالح خاصة. وبالرغم من ذلك، أقدم في هذا المقال حلا واضحا للمشكلة الاقتصادية وما يرافقها من مشكلة مالية، دون أن أدعي كماله.
المتوقع في ظل الاحتلال
بالتعريف، يعمل الاحتلال على إضعاف الناس الذين يحتلهم وأرضهم حتى لا يقووا على مقاومته، ويبقوا مستسلمين صاغرين. ولهذا يعمل الاحتلال على سلب إرادة الناس وقمعهم بمختلف الوسائل والأساليب، ويعمل على تدمير اقتصادهم، وتفكيك نسيجهم الاجتماعي والأخلاقي، والحط من إمكانات التعليم والنهوض في مختلف نواحي الحياة. الاحتلال بغيض بالتعريف، وكل أعماله تصب في تعزيز هذا البغض، وكل من يتوقع منه خلاف ذلك إنما تغمّ السذاجة تفكيره.
الاحتلال عبارة عن تحد كبير للناس الذين يقعون تحت الاحتلال، ومن المتوقع أن يتولد لديهم تحد مضاد بهدف التغلب على الاحتلال والتحرر منه. ومن المتوقع أن يغير الناس من أنماط سلوكهم الاجتماعي والاقتصادي، وأن يرفعوا من مستوى العمل الجماعي والتعاون المتبادل، وأن يحرصوا على سرية أعمالهم، ويدبروا شؤونهم الاقتصادية بطريقة تتناسب مع المتطلبات التي يفرضها عليهم تحدي الاحتلال.
والذي يريد التحرر من الاحتلال لا يحرص على مستوى استهلاكي رفيع، ولا يحلم بشراء غرفة نوم إيطالية، ولا يُقبل على شراء بضائع عدوه إلا إذا دعته الضرورة الوطنية إلى ذلك، ولا يبحث عن شهوات الحياة.
من المتوقع أن يكرس الذي يبحث عن التحرير حياته وإمكاناته بمختلف أوجهها نحو هدف طرد الاحتلال، وأن يطور الإمكانات بطريقة تعزز قدراته على المواجهة.
صحيح أن الاحتلال لعين، لكن الذي يقع تحت الاحتلال ليس معفيا أو بريئا، إذ لولا أنه سيّر حياته بطريقة غير قويمة لما وقع تحت الاحتلال، ولولا أنه تقاعس في مواجهة الاحتلال لما جثم الاحتلال على صدره عشرات السنوات. وعلى من يستعد لمواجهة الاحتلال وتحديه ألا يتوقع من الاحتلال خيرا. ثمن التحرر باهظ، وعلى الأحرار أن يتوقعوا الأذى والقمع والقتل والتدمير والتنكيل.
أقول هذا لأن هناك من سيقول فورا إن الاحتلال لن يسمح للناس بالقيام بالأعمال التي تؤدي إلى الإرادة الحرة والتحرر. ومن ينتظر إذنا من الاحتلال أو تسامحا أو تساهلا إنما يريد أن يبقى أبدا تحت الاحتلال.
الحل الاقتصادي الصهيو/أميركي
يتردد في الإعلام ما يعرف بالحل الاقتصادي للصراع الذي يسمونه الفلسطيني الإسرائيلي. ومن المعروف أن وسائل الإعلام لا تتناول الكثير من الأخبار أو المشاريع التي يضعها الفقراء أو المفكرون أو المثقفون، وإنما تتناول في الغالب الأفكار والآراء والمشاريع التي يقدمها الأقوياء وذوو النفوذ.
وسائل الإعلام العربية والفلسطينية لا تتناول في الغالب الأفكار المحلية النابعة من التزامات وطنية وانتماء للشعب والأرض، وغالبا تتناول الأفكار القادمة من الدول ذات التأثير والنفوذ والنابعة عادة من المصالح والمنافع. ولهذا نجد في وسائل الإعلام الكثير من التغطية لفكرة الحل الاقتصادي للصراع.
الحل الاقتصادي لا يتناول مسألة طرد الاحتلال أو تعزيز قدرات الشعب الفلسطيني على التحرر من الاحتلال، وإنما يقوم على أساس صناعة الظروف المناسبة التي تؤدي إلى حل بين الفلسطينيين والصهاينة، يرتكز على تطبيع العلاقات والاعتراف المتبادل، وتصفية الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حق العودة وحق تقرير المصير.
باختصار، يقول أصحاب هذا الرأي إنه إذا تم تأمين وضع اقتصادي جيد للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبح مستواهم الاستهلاكي جيدا فإنهم سينسون الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وبدل التفكير في مقاومة الاحتلال، فإنهم سيتعايشون معه ضمن كيان فلسطيني يعمل وكيلا أمنيا لإسرائيل، وستنفتح تبعا لذلك أبواب التعاون بين الطرفين.
هذا الحل يضع القيمة الاستهلاكية كأولوية، ويعمل على إعادة صيغ القيم الفلسطينية المختلفة بعد ذلك بطريقة تجعلها ضمن القيمة الاستهلاكية العليا. أي أن الحل يحاول أن يجعل من الفلسطينيين حيوانات مستهلكة، تستطيع أن تفكر فقط في كيفية تحسين نوعية وجبة الطعام، ودون أن تشغل مسائل الحقوق والكرامة الوطنية والاستقلال عقولهم.
الحل الاقتصادي ليس حلا لمشكلة اقتصادية ضمن منظومة فكرية وثقافية قائمة، وإنما ضمن منظومة ثقافية وفكرية وأخلاقية جديدة تحل محل القديم بحيث يتغير جلد الفلسطيني بجلد آخر. الغرب وإسرائيل يضعون هذا الحل وفلسطينيون يتبنونه بتآمر واضح على شعبهم.
بالنظر إلى اتفاقية باريس الاقتصادية، نجد أنها ربطت لقمة خبز الشعب الفلسطيني بإسرائيل والدول المانحة، وتدريجيا أخذ المنفذون يحولون الشعب الفلسطيني إلى جمهور من المستهلكين والمتسولين، وأخذت القيم الوطنية تندحر رويدا رويدا أمام القيم الاستهلاكية. وهكذا ينتهي الحل الاقتصادي إلى شل الإرادة الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى مجرد عاهات وطنية تشكل عبئا على الوطن وليس رصيدا له.
الحل الفلسطيني
يقوم الحل الفلسطيني للمشكلة الاقتصادية على مبدأ التحرير، وجوهره يقول إنه لا بد لمن يريد تحرير وطنه من أن يقيم اقتصادا وطنيا متناسبا مع طموح التحرير، ومحكوما بقيم التحرير واسترداد الحقوق، لا بقيم الاستهلاك والاعتراف بالكيان الصهيوني. وفيما يلي خطوطه الرئيسية:
البرنامج الثقافي: من المهم تطوير برنامج ثقافي فلسطيني يشمل الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم، يرسخ قيم الانتماء والالتزام والتحرير والتكاتف والتضامن والتكافل، ويرفع من مستوى الوعي بالقضية الفلسطينية وبالصراع على أنه صراع عربي إسرائيلي، وصراع إسلامي إسرائيلي.
المنظومة الثقافية القيمية هامة في حياة الشعوب، وهي البوصلة الأساسية التي توجه أعمال وسلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات، وإذا غابت هذه المنظومة سادت الفوضى ودب التشتت والتمزق، وإذا فقدت تماسكها والتزام الناس بها انهارت المنظومة الأخلاقية وتحول الناس إلى مجرد أفراد يبحث كل واحد منهم عن مصالحه الخاصة. الشعب الفلسطيني بحاجة ماسة إلى هذه المنظومة التي من المفروض أن تكون على رأس أولويات المخطط الفلسطيني.
يركز هذا البرنامج الثقافي على الاعتماد على الذات كقيمة عليا، ورفض قيم التسول والاعتماد على الآخرين. ومن المفروض أن يتعلم الإنسان أن عزته وكرامته واستقلاله تتحقق بعرق جبينه وبدمائه، وليس بالاعتماد على الآخرين، ومن أراد أن يأكل من عرق غيره فإنه لن يشبع إلا ذلا وهوانا وجوعا.
وإذا كانت هذه الثقافة هي المنطلق نحو التحرير فإن الشعب سيتعلم مع الزمن التخلي عن الكثير من المواد الاستهلاكية لصالح الإنتاج والبناء لكي يكون قادرا على حمل أعبائه بنفسه.
لا يستطيع شعب فلسطين أن يشق طريقه بفاعلية ونجاح إذا كان الفرد لا يميز بين قيمة استهلاك المنتج الفلسطيني واستهلاك المنتج الصهيوني، أو يغلّب القيم الاستهلاكية على القيم الوطنية. ولن يقوى على استرداد حقوقه إلا إذا تعلم قادته تحمل المشقة والتعب، وارتضوا لأنفسهم ما يرتضونه لشعبهم.
التطوير الزراعي: التطوير الزراعي بكافة أشكاله هو الخطوة الأولى نحو الاعتماد على الذات، لأن تأمين لقمة الخبز يشكل اللبنة الأولى في الاعتماد على الذات. صحيح أن الزراعة لا تشكل نسبة عالية من الدخل القومي المحلي، لكنها هي التي توفر سلة الغذاء، وهي التي تقي الناس شر التسول.
تفتقر الضفة الغربية إلى المساحات الزراعية الكافية، لكن من المطلوب استغلال ما يتوفر من الأراضي، والتوقف عن تحويل الأراضي الزراعية إلى أماكن سكنية، والتركيز على استصلاح أراض قابلة للزراعة.
جبال ووديان كثيرة في الضفة الغربية ليست مزروعة، ومن المفروض تطوير سياسة زراعية توسع المساحات المزروعة. ويجب ألا نتذرع دائما بضيق الحال وقلة المياه، ونقرر أن نفشل قبل أن نبدأ. من يحاول يجد وسيلة، ومن وجد وسيلة يستطيع تطويرها. ومن المفروض أن يشمل هذا التطوير الثروة الحيوانية والدواجن.
الاستيراد: من المفروض التوقف عن استيراد البضائع الصهيونية التي لا يحتاجها شعب فلسطين، أو لديه بديل لها. هناك بضائع لا مفر من شرائها من الصهاينة مثل الإسمنت وحديد البناء، لكن هناك بضائع كثيرة لا يحتاجها الفلسطيني في حياته اليومية، وأخرى يملك بدائل لها.
ومن المفروض منع استيراد المنتوجات الزراعية بالمطلق. شعب فلسطين ليس بحاجة للأفوكادو، ولا للفرسمون ولا للمانغا، وهو يستطيع إنتاج الخيار والبندورة (الطماطم) والملفوف والبرقوق والتمر.
التوقف عن استيراد البضائع الصناعية من دول أجنبية مثل الصين، وفي المقابل تشجيع الإنتاج المحلي. لقد قضى الاستيراد من الخارج على الكثير من الحرف والصناعات في الضفة الغربية مثل أعمال الخياطة وصناعة الأحذية والنسيج وتعليب المنتجات الزراعية.
لقد تطور الإقبال على الاستيراد بشكل مذهل، وبطريقة حرمت العمال الفلسطينيين من الاستمرار في أعمالهم بسبب إغلاق العديد من الورش والمعامل.
خرجت عملية الاستيراد عن المعقول، وتحولت إلى استهتار بالقيم الوطنية وقيم الاعتماد على الذات وتشجيع الصناعة الوطنية.
وعند الحديث عن الاستيراد والاستهلاك، لا يتوقف الشعب الذي ينشد الحرية عند تكاليف السلعة أو جودتها، وإنما يهتم بقيمتها الوطنية ومدى مساهمتها في بناء مجتمع يعتمد على نفسه.
الإنتاج والضرائب: يؤدي تشجيع المنتوج المحلي إلى أمرين وهما: زيادة الإنتاج المحلي وما يترتب عليه من زيادة في أموال الضرائب، وتوفير فرص عمل للعمال الفلسطينيين الذين يتطلعون الآن إلى الدول الأوروبية لتقديم سلة الغذاء لهم.
هذا يعني أن ميزانية القائمين على الشأن الفلسطيني ستتحسن، وسيصبح بالمقدور تغطية نسبة أكبر من النفقات المطلوبة. ومن المفروض أن يواكب هذا تقليص في الوظائف الحكومية، وتحويل الموظفين غير المنتجين مثل موظفي الأجهزة الأمنية إلى وظائف وأعمال إنتاجية.
أموال الدول المانحة:
أموال الدول المانحة لا تشكل دعامة حقيقية للشعب الفلسطيني، وإنما تشكل طوقا على رقاب الشعب لإذلاله وإجباره في النهاية على التنازل عن حقوقه الوطنية. أكثر من نصف ميزانية هذه الدول يأتي من الدول العربية، وحوالي 30% من ميزانيتها يتم إنفاقه من الدول المانحة نفسها كمصروفات إدارية.
ومن المفروض أن يطالب الشعب الفلسطيني الدول العربية بدفع الأموال مباشرة للفلسطينيين بدل المرور بالدول المانحة، لكن ذلك يتطلب مساءلة ومحاكمة اللصوص الفلسطينيين الذين أساؤوا إلى شعب فلسطين بسلوكهم المخزي والمشين. يجب أن يقوم الشعب بأعمال تنظيف تعيد ثقة الآخرين به.
لكن العودة إلى المساعدات العربية لا تعني التخلي عن الاعتماد على الذات. يجب أن يحرص الشعب على الاستمرار في العمل وتحسين إنتاجه حتى لا يبقى معتمدا على غيره، ودون أن ينسى أن الأنظمة العربية ليست مستقلة في قراراتها، ولا وفية لوعودها، ومن المحتمل أن تخل بالتزاماتها في كل لحظة.
الخلاصة
تطبيق الخطوات أعلاه ليس سهلا أو ميسرا، وإجراءات الاحتلال تقف بالمرصاد لإفساد ما صح من الأعمال. فمن يفوز: قمع الاحتلال أم إصرار الشعب؟ التاريخ ينطق بانتصار إرادة الشعوب على الرغم من ضخامة حجم التضحيات.
شعب فلسطين بحاجة إلى فؤوس يقطع بها الصخر ويسوي الأرض ويزرع الشجر، وليس بحاجة إلى تعلم القيم الاستهلاكية. من أراد بالشعب خيرا يعلمه كيف يصنع الغذاء، ومن أراد به شرا أتاه بآخر صرعات السيارات وأقلام أحمر الشفاه وموديلات الأحذية ومطاعم مكدونالدز.
ومن لا يريد وطنا ولا دولة مستقلة ولا عودة للاجئين يناضل من أجل بقاء يده اليد السفلى، وبقاء بيته مفتوحا لبغاة الأرض. إذا كان هناك من يريد وطنا فالوطن يتطلب التضحيات وشظف العيش، ومن أراد أن يبقى بلا وطن فإن عليه أن يبقى على ما هو عليه من لطم على الخدود واستنجاد باليهود