تركيا أردوغان عملة بلا رصيد في قوائم الصرف الدولي؟
حلم إستعادة عافية الرجل المريض يسعّر المشاكل بدل تصفيرها
تركيا تحوّلت الى لاعب في المنطقة عندما طرحت نظرية "صفر مشكلات" وحاولت الظهور بمظهر جديد من خلال السياسة الناعمة التي اتبعت، هذه السياسة لم تعمر طويلاً، لأن التركة التي خلفتها الدولة العثمانية في المنطقة العربية كانت ثقيلة الوطأة.
وهناك الصراع الدموي المتواصل مع الأكراد والمذابح التي تعرض لها الأرمن 1915- 1917، وهناك ازدواجية المعايير واللعب على التناقضات، وبروز ظاهرة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، التي حققت بعض النجاحات بداية، ولكنها عادت فجأة محملة بفشل ذريع عندما تعرضت المنطقة الى جملة من الأحداث والأزمات، حاولت تركيا أن تستغل الأوضاع في المنطقة علها تحقق بعض المكاسب ولكن المنافسين كثر، أرادت تركيا أن تلعب دور الوكيل بتفويض من واشنطن التي أعيتها حروبها وأوضاعها المالية التي وصلت حد الأزمة، ولكنها لم تجد مكاناً، لأنها اختارت الطريق الخطأ، لم يحالفها الحظ لا في الزمان ولا في المكان، أرادت أن تركب موجة الأحداث والأزمات، وصورت لها أحلامها الامبراطورية بأن الفرصة باتت سانحة لتحقيق المكاسب.
فجأة ودون مقدمات انقلبت صداقاتها في المنطقة الى حالة العداوة الكاملة، علت صيحاتها وأصدرت الأوامر والتعليمات بالاستعداد للمرحلة القادمة، ظنت بأنها قادرة على قيادة العالم العربي في زمن "الثورات" والأحداث والأزمات، اصطدمت بالواقع وخفت الصوت بالتدريج، لم تفلح لغة التهديد والوعيد في إيصالها الى ما تريد.
قرعت طبول الحرب دون جدوى، الصراع في المنطقة يدور حول الهيمنة والمصالح والحسابات الاستراتيجية، العالم في لحظة هامة ونقطة انعطاف دولية، التحكم الأميركي الآحادي وسياسة التفرد والهيمنة تتراجع بسرعة، قوى جديدة تظهر في العالم وتملك الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية، والعالم يتشكّل من جديد.
والسؤال، أين موقع تركيا في هذه الخارطة الجديدة؟
لا يكفي أن تتشدق تركيا بلسان أردوغان ودعوته "إسرائيل" الى رفع الحصار عن غزة فوراً، ومثل هذا الطلب لا يستقيم مع العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين وعلاقاتها المشتركة بالولايات المتحدة ودول الغرب الاستعماري.
السياسة التركية انكشفت مبكراً، وأمام أول المنعطفات، الأزمة في سوريا كشفت حقيقة الدور التركي ومدى ارتهانه لحليفه الأميركي والغربي عموماً وكانت تركيا قد تحركت إقليمياً، انطلاقاً من مصالحها الوطنية، الاقتصادية والأمنية والإقليمية، وطبعت المشاغل الأمنية لتركيا فيما يتعلّق بـ ''حزب العمّال الكردستاني'' سياستها الخارجية حيال سوريا والعراق وإيران وبلدان أخرى في العالم، الأمر الذي أفضى إلى تعزيز شراكتها مع الولايات المتحدة وأوروبا بطرق عدّة، حسبما يقول إبراهيم كالين مستشار رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي.
ومن خلال رصد حالة الحراك الإقليمي لتركيا، يمكن ملاحظة حجم القوة الناعمة التي تبنتها تركيا في إطار استراتيجياتها في السياسة الخارجية، التي أفضت إلى تصفير مشكلاتها مع دول الجوار، خصوصاً سعيها إلى إنهاء صراعها التاريخي مع أرمينيا، ونجاحها في عقد اتفاق معها، يعيد فتح الحدود والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وطاول الحراك التركي قيام مسؤولين أتراك بزيارة شمال العراق وجنوبه بصورة متواترة، والتنسيق التركي الرفيع المستوى مع إيران بخصوص الطاقة، إضافة إلى شروعها في تأسيس المجلس الأعلى للتنسيق الاستراتيجي مع اليونان.
واستند نجاح السياسة التركية في حينه إلى نظرية ''العمق الاستراتيجي''، التي وضعها وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو، أستاذ العلوم السياسية، الذي يعتبر أن موقع تركيا وتاريخها يجعلانها مستعدة للتحرك الإيجابي في الاتجاهات كافة، خصوصاً جوارها الجغرافي، للحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها، لذلك توجب إنهاء القطيعة التركية لمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها، التي استمرت عقوداً طويلة، وكانت تعيش تركيا خلالها حالة من الانطواء والعزلة داخل ''هضبة الأناضول''، وتتصرف كدولة هامشية أو طرفية في منظومة المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ومع مطلع القرن الـ 21 ومجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فيها، عاد الأتراك بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، خصوصاً بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا في المقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية.
واتبعت تركيا في استراتيجياتها، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، سياسة القوة الناعمة والتمدد شرقاً وجنوباً، وهذا الأمر مكنها من إبرام اتفاقيات ثنائية مع عديد من الدول العربية، ومن تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي، خاصة مع سوريا ولبنان والعراق ودول الخليج ومصر. لذلك يمكن القول إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية، وبداية إرهاصات هذا التحول، لكن جذور التحول ترجع إلى أن الدولة التركية وجدت نفسها في حقبة تاريخية، مضطرة فيها إلى أن تعدل وتطور توجهاتها السياسية الخارجية، نظراً للتغيرات التي طرأت على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، فعملت على تقديم إسلام حداثي، فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، وعلى احتضان حوار داخلي، يزداد حيوية ونشاطاً، ويرتكز إلى مقولات الإصلاح السياسي، والخروج من آثار الماضي، إلى جانب بروز مجتمع مدني تركي، يؤكد ذاته يوماً بعد آخر في مواجهة الدولة المركزية المتخندقة، ويدعم ذلك اقتصاد حيوي متنامٍ باطراد.
وأدرك قادة حزب العدالة والتنمية أهمية الشرق الأوسط، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لم يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة التعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكاً فاعلاً في رسم بعض السياسات في المنطقة.
تركيا والتحوّل من سياسة القوة الناعمة الى قوة خشنة مرفوضة
لا شك أنّ الولايات المتحدّة الأميركة بذلت جهوداً ضخمة حتّى استطاعت أن تصنع تركيا المعاصرة اليوم لتقوم بهذا الدور.
فقد قامت بألاعيب كثيرة ضد الجيش حامي العلمانية واستطاعت أن تثبّت هذه الحكومة مساحة معيّنة من الزمن وكأنها التّي نعيشها اليوم، فلها دور في شمال العراق وفي سوريا وفي مصر وفي ليبيا.
فزار أردوغان مصر وعقد عدّة اتفاقات وتحالفات مع النظام المصري الحالي وهذا له أكثر من معنى، بأن هذه اللقاءات دلّلت على أن تركيا تريد أن ترتّب مصر من الداخل وتريد أن تعود مصر كما يجب أن يكون حتّى لا يتدخل فيها آخرون.
لقد كان هناك مخطط للولايات المتحدّة الأميركية بعد أن تهاوي نظام مبارك في مصر ونظام بن علي في تونس فأدخلت تركيا على الخط مستغلة موجة الشعور لدى المسلمين بالحنين الى الماضي والى عقيدتهم والى إسلامهم من خلال إيجاد حركات إسلامية تسمّى معتدلة تكون مقبولة لدى الشارع وتقود المنطقة خلال الحقبة القادمة. ورأت الولايات المتحدّة الأميركية أن تحاول تعميم النموذج التركي. وأردوغان ذهب الى مصر ينادي بالعلمانية وذهب الى تونس مبشّراً بالديمقراطيّة.
لقد عملت الولايات المتحدّة الأميركية على أن يكون لها مبعوث خاص في المنطقة والظاهر أنّ هذا المبعوث الخاص عرّاب سياسة أميركا هو أردوغان.
وفي الوقائع أن تركيا "الصدر الأعظم" كانت ومازالت مرفوضة من أوروبا التي تضع فيتو على دخول تركيا الاتحاد الأوروبي رغم أن القسم الأكبر منها يقع في القارة الأوروبية، رغم الدور الذي تقوم به لإرضاء الأميركي والغربي بسياسة هي الأقرب الى الأداة، وتركيا ظنت أو هي تظن لوهلة أولى أنها قادرة على جمع الأصوليات، من قاعدة أفغانستان والسعودية، وفجأة صار أردوغان يهتم بأمور ليبيا ومتابعة شؤون مصطفى عبد الجليل، وأصبح يهتم بوحدة المعارضات السورية ويجمعها في اسطنبول أو أنطاليا، ويفرض عليها رئيساً لما يسمى "مجلي اسطنبول" هو حامل الجنسية الفرنسية برهان غليون، وفي عضويتها حملة الجنسيات البريطانية والإسبانية..
فأردوغان بدا وكأنه لا يميز في مفاهيم الأصفار إذا كانت على يسار الرقم أو يمينه، ويتساءل البعض إذا كان أردوغان يعرف أن تركيا موضوعة بدورها على مفصلة الشرق الأوسط الجديد، ومشروع تحويلها إلى أربع دول مازال في الاهتمام الغربي والأميركي.
بأي حال، فإن تركيا - أردوغان حشرت نفسها في زاوية ضيقة جداً بعدائها لسوريا؛ ممرها الإجباري والوحيد نحو المنطقة، لافتاً إلى أنها بعد أن فشلت في إقامة "بنغازي سورية" على حدودها، هاهي تدخل لعبة المخابرات والدم، وفق ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن أن الاستخبارات التركية تقف وراء اغتيال المعارض السوري الكردي مشعل تمو، وحسب ما أكد مراسل صحيفة "غارديان" البريطانية في الموصل شمال العراق؛ جوناثان ستيل، فإن المخابرات التركية هي التي تقف خلف اغتيال مشعل تمو، والذي أضاف في تقرير وصف بالسري جداً والعاجل، أن الاغتيال جاء رداً على العملية النوعية التي قامت بها المخابرات السورية بالقبض على الضابط السوري الفار حسين هرموش.
وأعرب ستيل عن اعتقاده بأن تركيا أرادت من وراء عملية الاغتيال تحقيق هدفين بضربة واحدة، حيث تخلصت من معارض كردي هام ومميز، وألقت بالتهمة على السلطات السورية، الأمر الذي يمكن استثماره لتنشيط الاحتجاجات ضد السلطات السورية من جديد في شمال سورية، بعد حالة الهدوء التي عادت إلى المنطقة.
في الواقع إن أميركا تنظر إلى تركيا كحليف مهم في المنطقة يمكن الاعتماد عليه أكان ضد إيران أم ضد سوريا وتدرك أميركا أن تركيا غاطسة في علاقات اقتصادية وعسكرية من الصعب الخروج منها وهي حليف تلتقي مصالحه مع مصالح أميركا في المنطقة..
إن "تركيا أردوغان" تهذي هذه الأيام.. فهي تستضيف من يزعمون أنهم أصدقاء سوريا ومجلس العملاء الذي أسسته وتسحب سفيرها من دمشق وتطالب بمناطق عازلة... الخ وكأنها دولة غائبة عن هذا الكون أو أن قادتها الجدد فقدوا عقولهم بعد انتصار سوريا الأسد في المحافل الدولية.
حكومة رجب طيب أردوغان ليس فيها طيب واحد فقد اختارت الانحياز الى المعارضة المصطنعة ضد سوريا وقدمت التسهيلات اللوجستية لدعم الإرهابيين وعملت على تأسيس مجلس اسطنبول الذي أتت به بالتنسيق مع دوائر المخابرات الأميركية وعربان الجزيرة، وما فعلته ضد سوريا أسوأ مما فعلته بالأمة العربية أثناء خلافتها، لكن أردوغان تركيا فقد عقله وبصره وقواه وراح يهذي على طريقته محاولاً إسقاط الدولة السورية وتآمر مع العربان وحلفائه الأميركان.
"اردوغان تركيا" كغيره راهن مع المراهنين وتاه في سراديب الوعود وأقفل عينيه عن بلده التي قتلت من أكراد تركيا عشرات الآلاف ومازالت تلاحق حزب العمال الكردستاني وإن مشاكل بلده أكبر بكثير مما هو حاصل في سوريا وقد غاب عنه أنه أضعف من أن ينفذ شيئاً واحداً خارج حدوده وغاب عنه أنه حتى الأمس القريب كان عدواً للعرب وغاب عنه أن "خمس بلده أكراد" ولا يتمتعون بأية حقوق وحتى لغتهم محرومون منها، وغاب عنه أنه صغير دولياً وإقليمياً وأن قبوله بالناتو فقط كان من أجل أهداف غربية في محاصرة الاتحاد السوفياتي السابق وغاب عنه أنه مكروه أوروبياً وأن دوره أصغر مما يظن إقليمياً.
العناوين التي انطلقت بها تركيا ''العدالة والتنمية'' إلى دول الجوار قبل سنوات من تصفير للمشاكل وتعدد في الأبعاد تنقلب فجأة إلى إخفاق وخيبة بعد أن انقلبت الحكومة التركية بساقيها أردوغان وأوغلو على هذه المفاهيم، واعتمدت تصفير الحلول وافتعال المشاكل بديلاً منها... فمن يدّعي أنه مهندس السياسة الخارجية التركية يفخَرُ بنجاحه في خلق نظريتي ''تصفير المشاكل مع دول الجوار وتعدد الأبعاد'' فيجول دول العالم محاضراً ومناقشاً فيما حققته هاتان النظريتان من إنجازات لتركيا باعتبارهما فتحاً في الديبلوماسية الدولية. ونظرة واحدة على خريطة الجوار التركي جنوباً وشرقاً وشمالاً نجد مشاكل تتوالد وشروخاً تتعمق بعد أن احتكر أوغلو وأردوغان سياسة بلادهما وأنساقاً وراء أوهام عثمانية غابرة تستمد استراتيجيتها من منطق الباب العالي، فلم ينجحا في حلّ المشاكل مع أرمينيا والعراق وسوريا وإيران رغم الأدوار التي تقمّصوها. فالعلاقة مع سوريا وصلت إلى مرحلة لا عودة فيها بعد أن اختارت الحكومة التركية نهج العداء والاستعلاء والتهديد باعتبارها شرطياً أميركياً في المنطقة، مع ملاحظة فتور وجفاء في العلاقة مع العراق وكذا الحال مع إيران وروسيا في صراع ظاهر أحياناً وباطن أحياناً أخرى وبخاصة مع تركيب قطع من الدرع الصاروخية الأميركية في قاعدة أنجرليك. كما يستمر التوتر في العلاقات مع أرمينيا وقبرص وبالتالي حليفتها اليونان إضافة إلى الخلاف المفتعل مع "إسرائيل" لتحقيق مصالح من باب المزايدة على القضايا العربية. وبعكس هذه الجهات تفتح تركيا أوغلو وأردوغان الأبواب الغربية فيقدمون أراضيهم منصة للدرع الصاروخية الأطلسية التي لا تستهدف إلا الجوار الذي يريدون تصفير المشاكل معه متصدّينَ بذلك لدور جرّ العربة الموكلة أطلسياً إليهم.
تتحول نظرية تعدد الأبعاد إلى نظرية تعدد المشكلات بعد أن انقلبت تركيا أردوغان عند أول وَهْمٍ على نفسها متخيلة بممارستها التكتيكية عن سياسة الحياد والمسافة الواحدة لتتحول إلى طرف في الصراعات بين الدول ومعها. فهذا الأوغلو الذي نجح في افتراض الشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقات بين دول الجوار، فشل وحكومته العثمانية في التطبيق، فاستحق لقب مخترع نظرية تصفير الحلول مع الجوار لمصلحة أعدائه.
تركيا الدور والتوافق مع أميركا بشأن أمن "إسرائيل"
تركيا الحالمة حديثاً وقديماً بعودة النفوذ والمجد العثمانيين، فقد قادت انقلاباً ضد سوريا، لم يكن مفاجئاً تماماً كانقلاب قطر على كل شيء له علاقة بالوفاء والشرف، وبالتالي فقد عادوا ليغردوا داخل سربهم الأصلي، فلا أردوغان من منابت ثورية ولا قطر حررت الجزر العربية، بل كلاهما يقيم في بلده قواعد أميركية هي الأكبر والأخطر في المنطقة. لقد تدهورت العلاقات التركية ـ السورية، والمسألة هنا ليست مسألة حسابات فقط، وإنما مسألة معادلات استراتيجية جديدة يحكمها التوجه الأميركي الجديد، الذي يرمي إلى ''إعادة صياغة أنظمة المنطقة'' أي تدجين الأنظمة الممانعة، بصورة يسهل معها إدخالها في التسوية التي يتم إعدادها في مطابخ البيت الأبيض، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
فالصفقة التركية ـ الأميركية الجديدة، بأبعادها الاستراتيجية المتصلة بأمن "إسرائيل"، دخلت مراحلها الأخيرة، والعلاقات التركية ـ السورية دخلت بدورها في امتحان مصيري لن تتأخر تداعياته في الظهور. والسر الخفي في الصفقة، والذي لم يتبلور بوضوح كامل حتى الآن يتمثل في التوفيق بين إملاءات الخطة الأميركية، ودور العرّاب التركي في إدارة ''المرحلة العربية الثورية'' وضبطها في اتجاهين متلازمين: المصالح الأميركية في المنطقة وأمن "إسرائيل".
لقد بات واضحاً أن المواقف التركية لم تعد سراً بل سرعان ما اتضح أن تركيا هي أيضاً ضحية وأن حرية تركيا التي زهرت خلال أعوام ثلاث لم تعمر طويلاً بل إنها مهددة بالموت، وأن تركيا قد تصبح قريباً ضحية ''الموعودين'' بدور بدل دور حقيقي كان يأخذ طريقه ليؤسس لعالم جديد عبر شرق أوسط جديد، تتكافل شعوبه وحكوماته وتتنافس ولا تتنازع وتنهي مفاعيل الاستعمار وذهنية الاستعمار وأمراضه المزمنة، فالوعود التلمودية والأميركية والغربية لم تكن يوماً محل وفاء للشعوب ولا للقيادات التي نصبوها على شعوبها.
لقد نبتت العثمانية في عقل أردوغان، فكانت ساحاتها سوريا، ليبيا، مصر، تونس، والحبل على الجرار، بفعل هذا العائد إلى الوراء في التاريخ لاستحضار صفحاته السيئة بحق العرب والمسلمين. من هنا أحلام أردوغان، هي أحلام أميركية إسرائيلية، وفيها تتقاطع شهوة الجميع للانتهاء من العرب والعروبة، وإذا كانت سوريا خندق العروبة الأخير، فالتركيز اليوم على سوريا، وأردوغان ليس أكثر من بيدق من بيادق أميركا. فانخراط الحكومة التركية في المخطط الدولي ضد سوريا لم يكن يحتاج إلى دليل منذ بداية الأحداث، فمع تصريحات القادة الأتراك ذات الطابع الاستعلائي والاستفزازي ضد سوريا قيادة وشعباً، قدمت الدعم اللوجستي للتنظيمات الإرهابية داخل سوريا والمعارضة العميلة خارجها، وإقامة معسكر للمهجرين السوريين على أراضيها ودعوة المنظمات الدولية والإعلام الغربي والإسرائيلي لزيارته برفقة وزير الخارجية التركي. فالأحداث التي يغذيها السيد أردوغان بالمال والسلاح والخطب الرنانة، وبإقامة المخيمات، وإدخال الآلاف من المرتزقة عبر الحدود التركية، وإدخال الهواتف النقالة، وأجهزة الاتصالات الحديثة التي لا يعرف أسرارها سوى العاملين في أجهزة الاستخبارات الأميركية تؤكد شهوة رؤية الدم السوري.
فالتوجه الأميركي الإستراتيجي يحتاج إلى متعهدين مؤثرين في الشرق الأوسط، وأبرز هؤلاء المتعهدين اليوم رجب طيب أردوغان، إلى جانب حكام قطر كدولة مساندة. والتنسيق التركي ـ القطري لا يحتاج إلى دليل على مستوى التعامل مع ''ثورات'' المنطقة، في تونس ومصر واليمن، كما في ليبيا وسوريا. بكلام آخر، إن رجب طيب أردوغان ينشط في ورشة جديدة الهدف منها جر الحركات الإسلامية المسماة ''معتدلة'' إلى مسار جديد لا مكان لأي نكهة إسلامية حقيقية، أي الارتماء في أحضان الولايات المتحدة والغرب، والاعتراف بـ "إسرائيل". إنها الدبلوماسية العثمانية الجديدة التي تتعامل مع الجيران العرب على وقع التناغم المتواصل مع "إسرائيل" والإستراتيجيات الغربية، بدءاً باستراتيجية الأطلسي، على امتداد المساحة العربية، وتركيا تريد لنفسها تحقيق مزيد من الوصل بين المشهدين الإقليمي الجديد والسياسات الأميركية ـ الإسرائيلية.
لقد بدا الموقف التركي من القضية السورية، مكشوفاً وفاضحاً، حيث تدعم القيادة التركية الإرهابيين وتنظيم القاعدة، بعدما فشلت في تمرير مخططها بتنحي الرئيس بشار الأسد، وقد بدا واضحاً أن القيادة التركية تنفذ ما تُأمر به من أسيادها.
وعليه ثمة من يتساءل عن أسباب وصول الموقف التركي إلى هذه النقطة الحرجة إزاء الأزمة السورية؟ وفي الأصل لماذا التخلي التركي عن نظرية صفر المشكلات مع دول الجوار الجغرافي والحديث عن إمكانية إقامة عمق إسلامي في المنطقة لمصلحة العودة إلى القيام بدور وظيفي في الإستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط وآسيا؟.
تركيا أحرقت مراكبها وخاضت معركة خاسرة
إن خطأ تركيا في البداية أنها رفعت السقف عالياً تجاه الأزمة السورية ومع مراحل الأزمة أحرقت تركيا جميع مراكبها''. وحقيقةً فإن تركيا تبدو في أزمة حقيقية، فمن جهة لا مؤشر إلى خيار عسكري بقرار دولي بحق النظام السوري لإسقاطه كما جرى لنظام القذافي في ليبيا، ومن جهة ثانية لا قدرة تُركية على القيام بمثل هذا الخيار حتى ولو كان هناك تمويل خليجي للتكاليف، فمثل هذا الخيار سيكون نهاية للدبلوماسية التركية الناعمة والتحول إلى دولة استعمارية لن تقبل بها الشعوب العربية مع التأكيد أن هذا الخيار غير مضمون النتائج، بل قد يكون كارثياً على الداخل التركي نفسه الذي يعيش على وقع الأزمة الكردية القابلة للتحول إلى بارود في أي ساعة. وعليه ثمة من يرى أن تركيا أضحت ضحية الصورة التي قدمت لنفسها وتحديداً من أردوغان عندما صوّر بلاده كقوة إمبراطورية ضاربة قادرة على التحرك ورسم المصادر قبل أن يكتشف أن للقوة حدوداً وأن الجغرافية السورية هي في قلب الصراعات القديمة الجديدة بين القوى الدولية الكبرى المتنافسة على رسم المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط انطلاقاً من البوابة السورية نفسها، ولعل وصول الموقف التركي إلى هذه الدرجة من التصعيد منذ بداية الأزمة السورية قبل أن يصطدم بالحقائق والمعطيات السابقة يشير إلى عدم تفهم السياسة التركية لديناميات العالم العربي على شكل ارتكاب خطأ فادح في فنّ السياسة وممكناتها. وعليه، فإن السؤال الأساسي هنا، هو لماذا انتهجت تركيا التصعيد مع النظام السوري ولم تبادر إلى القيام بواسطة بينه وبين المعارضين ولا سيّما أنها تحتضن هذه المعارضة وتحديداً حركة الإخوان المسلمين؟ ألم يكن مثل هذا الخيار سيحفظ لتركيا المزيد من الدور والقوة الناعمة بدلاً من أن تتحولّ إلى لاعب إقليمي خطر يحدد حركاته على وقع الساعة في واشنطن ويضع السياسة التركية في موقع الصدام مع دول الجوار العربي والإسلامي؟
دون شك، تركيا في أزمة مفاهيم وخيارات إزاء الأزمة السورية، وهي أزمة ناتجة أساساً عن تطلعات تركيا الجامحة التي تدمج بين الإرث التاريخي (العثمانية الجديدة) والتطلع إلى الدور والنفوذ في الشرق الأوسط انطلاقاً من علاقاتها المتينة مع الولايات المتحدة وإستراتيجيتها تجاه المنطقة.
والحال إننا أمام استراتيجية تركية مسكونة بأحلام تاريخية تريد أن تعود بمن استعاد عافيته بعد أن كان ـ الرجل المريض ـ إلى مناطق نفوذه، ولكن هذه المرة تحت عباءة ما يدّعيه الإسلام العلماني المتصالح مع مفاهيم الحداثة والديمقراطية الغربية.
نحن اليوم نواجه سياسة تتريك للإسلام عبر ضخّ إعلامي ومنهجية سياسية لها مشاريعها وحواملها وأدواتها ومنابرها ودعاتها، ترى في النموذج الإسلامي التركي الوصفة والعلاج لكل أمراضنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا التحدي التاريخي يستدعي موقفاً مناسباً ومواجهة حقيقية يقع عبئها وشرف القيام بها على عاتق كل القوى الفاعلة والمتنورة والحريصة على هويتنا العربية للتصدي لها في كل الساحات ليس بهدف إسقاطها كمشروع فقط وإنما إخراجها من دائرة التداول السياسي بشكل نهائي. فالنظام المتعثمن الذي اتخذ الإسلام لبوساً دينياً مؤدلجاً، يدركُ أنه طُعم في شرك الغرب والصهاينة الجدد لخلق صراع يحقق الفلسفة التفكيكية التي تضمن حيادية وأمن الكيان الصهيوني، وينأى به عن الصراع الحاصل في المنطقة.
إعداد: لميس داغر