انتقل دحلان من غزة إلى ليبيا حيث أقام فترة بسيطة، ما لبث بعدها أن انتقل إلى تونس.. ووصلها مع جبريل الرجوب فاستقبلهما عرفات هناك و((تبناهما)).. والتقطا معه صوراً فوتوغرافية تمّ توزيعها على الصحافة.. وكانوا ينادون عرفات ((يابا))..
غير أنهما لم يظهرا في الفترة التالية.. حيث انتهت صلاحياتهما الإعلامية (عرفاتياً).. وهذه الفترة هي الأكثر حسماً في مسيرة هذين الرجلين..
يقول أحد مسؤولي الاستخبارات المركزية الأمريكة (CIA) السابقين ((ويتلي برونر)) إنه تم تجنيد دحلان في تونس في الثمانينات، وتمّت تزكيته وتسميته مع الرجوب ليكوّنا سوياً القوة الضاربة المستقبلية بعد اتفاقات أوسلو، مع ملاحظة أنه لم يتم نفي هذه المعلومات رغم انتشارها في الصحف على نطاق واسع.
في تلك الفترة –يقول أحد أصدقائه- كان يقضي الأيام مع الأصدقاء، من غير عمل سوى أنهم ((مبعدون))، كانوا يتنقلون أحياناً كما قال صديقه ((خمسة أشخاص بسيارة واحدة)) (لدى دحلان الآن 11 سيارة تتنقل معه كمرافقة أمنية، عدا عن ما يمتلك من سيارات لغير المهمات الرسمية). وقد ولّدت صفة ((المبعدون)) حقداً في نفوس العاملين في المنظمة في تونس، نظراً للدلال والارتياح الذي كان يتمتع به هؤلاء. ولم يطل الأمر حتى استشهد أبو جهاد (وادعى دحلان أنه كان يساعد أبو جهاد في توجيه الانتفاضة).. يذكر المساعد الرئيسي لأبو جهاد وهو نابلسي يحمل الجنسية الأردنية، أن محمد
دحلان جاءه أكثر من مرة ليتوسط له من أجل العمل لدى أبو عمار. فهو لم يكن يسعى للعمل في مكتب أبو جهاد، ولم يعمل أصلاً في ((القطاع الغربي)) على الإطلاق. و((القطاع الغربي)) الذي أسّسه أبو جهاد لإدارة شؤون الداخل كان معروفاً باستقلاليته الإدارية والتنظيمية.
ساهمت الاغتيالات التي شهدتها تونس (أبو جهاد – نيسان/أبريل 1988) وأبو إياد وأبو الهول (كانون الثاني/يناير 1991)، إلى صعود نجم عدد من قادة الصف الثاني (أبو مازن أبو العلاء..)، وحدوث فراغات في القيادات الشابة، وحدثت حركة ترقيات مفاجئة وغزيرة، نال المبعدون وقتها حصتهم منها.. وبات في دائرة الضوء ((العقيد)) دحلان، وعدد كبير من العقداء الذين أغدق عليهم عرفات يومها الرتب بسخاء.
بعد أوسلو
ليس بعيداً عن ذهن القارئ ما فعله دحلان بعد أوسلو حين تسلّم مهمة قيادة جهاز الأمن الوقائي، وكيف كان وفياً بطريقة خرافية للاتفاقات الأمنية، وكيف تعاون مع الصهاينة من أجل الفتك بالمقاومة عبر التنسيق المذهل مع الأجهزة الأمنية الصهيونية.
هذا التنسيق دفعه، عبر الرسائل والتقارير واللقاءات والمصالح الأمنية والاقتصادية، إلى أعلى المراتب في سلطة الحكم الذاتي. من قائد لجهاز الأمن الوقائي، إلى مستشار عرفات للشؤون الأمنية إلى وزير للداخلية.. إلى ما هو عليه اليوم..
العرّاب
وانقلب العرّاب على سيده..
يتميز دحلان بعدة عوامل دفعت به إلى القيادة بالسرعة الصاروخية، وهذه العوامل هي:
1. المغامرة والمجازفة.
2. الدهاء والاستشعار.
3. التخلص من الخصوم.
4. الوفاء لمبادئه (المصالح).
5. ارتكازه واستناده على ظهر متين.
في المعركة الأخيرة رأى دحلان أن الرأس قد أينع واستوى وحان قطافه، حيث استشعر ذلك من تصريحات ومشاريع الانسحاب وانتخابات فتح في غزة..
غير أنه لاحظ فيما بعد، وبعد أن دفع بجزء كبير من رصيده، أن الكفة لا تميل لصالحه وأن الظهر الذي يستند إليه مشغول عنه، فتراجع خطوة إلى الوراء سوف يتبعها لاحقاً وحتماً خطوة نهائية، والأرجح أن تكون الضربة القاضية لأحد الطرفين المتصارعين على مطيّة فتح للاستيلاء على السلطة. صحيح أن دحلان ليس له الآن أي صفة رسمية في فتح أو السلطة، ولكنه بدون شك الرجل الأقوى (فتحاوياً وسلطوياً) في غزة. حيث لا زالت قوة الدفع الصاروخية في جيبه وخدمته. فما الذي ينتظر الفلسطينيين في عالم الغيب السياسي والأمني.. لا أحد يعرف تحديداً، ولكن الكل بالتأكيد يعرف أن
دحلان أحد أهم لاعبي المستقبل الفلسطيني.. على الأقل المنظور.. وإن غداً لناظره لقريب..!
محمد دحلان
من يموّله وكيف جمع ثروتـه؟!
ما بين ولادة محمد يوسف دحلان في العام 1961 لأسرة فقيرة في مخيم خان يونس ونشأتـه في مناخ العوز (حتى أن أهل غزة يذْكرونه جيداً بـ((البنطلون والقميص الكحلي)) اللذين كان يرتديهما لمدة شهر كامل دون تغيير) وما بين تملّكه لفندق فخم في غزة، تعيش حكايات وقصص كثيرة يعرفها الصغير والكبير في غزة عن ذلك الفقير الذي تحوّل إلى واحد من أثرى أثرياء غزة في بضع سنين قليلة. ولنبدأ الحكاية منذ وصوله إلى غزة مع دخول السلطة الفلسطينية في العام 1994 كقائد لقوات الأمن الوقائي في القطاع بعد أن أخذ يتقرّب من ياسر عرفات، والناس تشير إلى ذلك الشاب الفقير (الصايع)
في (زواريب) مخيم خان يونس.
بدأت رائحة دحلان المالية تفوح بعد أن أصبح مالكاً لفندق الواحة على شاطئ غزة، وهو الفندق المصنف كواحد من أفخم مجموعة فنادق الخمس نجوم في الشرق الأوسط. فاستغرب أهل غزة مِن ذاك الذي كان فقيراً بالأمس القريب يتملّك فندقاً تكلفته عدة ملايين من الدولارات، ولكن جهاز الأمن الوقائي كان كفيلاً بإسكات وتعذيب كل من يهمس بكلمة عن هذا (الإصلاحي) الجديد. لم تنته الحكاية عند هذا الحدّ بل تفجّرت بشكل كبير عندما كشفت صحيفة ((هآرتس)) العبرية في العام 1997 النقاب عن الحسابات السرية لرجال السلطة الفلسطينية في بنوك إسرائيلية ودولية، وكانت ثروة دحلان في
البنوك الإسرائيلية فقط 53 مليون دولار. المعابر الحدودية هي المثال الأبرز للفساد، حيث تجبي (إسرائيل) لصالحها ولصالح السلطة الفلسطينية رسوم العبور في المداخل والمخارج من السلطة ومصر والأردن إلى (إسرائيل). وهي ملزمة حسب الاتفاقيات تسليم السلطة الفلسطينية 60 في المئة من العمولات. في عام 1997 طلب الفلسطينيون تحويل حصتهم من رسوم معبر ((كارني))، نحو 250 ألف دولار في الشهر، على حساب جديد. واتضح فيما بعد أن صاحب هذا الحساب هو محمد دحلان قائد الأمن الوقائي في غزة في ذلك الوقت. هذا بالإضافة إلى ملايين الشواقل التي تجبى من أنواع مختلفة من الضرائب
و((الخاوات)) الأخرى، وفي مناطق مثل الشحن والتفريغ من الجانب الفلسطيني لمعبر ((كارني))، ويتضح أن تمويل جهاز الأمن الوقائي يتم بواسطة ضرائب مختلفة تُنقل إلى صناديق خاصة ولا تخضع لنظام مالي مركزي. وفي سلطة المطارات الإسرائيلية، والكلام لصحيفة ((هآرتس))، تقرّر تحويل النقود إلى الحساب المركزي لوزارة المالية الفلسطينية في غزة، مما أغضب دحلان. كما يوفر دحلان من خلال رجال أمنه الحماية الأمنية لشاحنات شركة ((دور للطاقة)) الإسرائيلية التي تدخل إلى قطاع غزة. وتعمّدت (إسرائيل) نشر هذه المعلومات عن دحلان لحثه على تدابير أشدّ صرامة ضد حركات
المقاومة، متغافلة عن أن أعوام انتفاضة الأقصى تختلف عن الأعوام التي سبقتها.
لم تقف الفضائح المالية لدحلان عند هذا الحدّ، بل تفجّرت مرة جديدة حين اشترى بيت أحد وجهاء غزة البارزين المرحوم رشاد الشوا، بمبلغ 600 ألف دولار، لكن دحلان نفى هذه التهمة (المغرضة) وقال أنه دفع ثمنه فقط 400 ألف دولار!!! ثم ذكر لصحيفة ((يديعوت أحرونوت)) أنه لا يحق لأحد أن يسأله عن ثمن البيت سوى شعبه. ونحن نسأل كجزء من هذا الشعب مِن أين أتيت بثمن بيت قيمته 600 ألف دولار بعدما كنت تسكن بيتاً في مخيم وبالإيجار؟!!
وتمضي الأيام ويذهب القائد السابق لجهاز الأمن الوقائي، محمد دحلان، والذي لا يتولّى الآن أي مسؤولية رسمية، إلى جامعة كامبردج ليتعلّم اللغة الإنكليزية على أيدي ثلاثة من المختصين في إحدى أكبر وأغلى الجامعات في العالم وتحت الحراسة الأمنية. وأقام في فندق كارلتون تاور بكامبردج ذي الإقامة المرتفعة الثمن. فمن دفع له الفاتورة؟
يتضح مما سبق أن تمويل محمد دحلان يعتمد على المصادر التالية: تحصيل الضرائب الفلسطينية، احتكاره لبعض السلع الأساسية التي تدخل لقطاع غزة، مساعدات أمريكية وأوروبية هائلة، استيلاؤه على أموال وأراض فلسطينية، وفرض خوات على رجال الأعمال والتجار.