ربما لم يسبق وأن حظي مؤتمر عام لتنظيم أو لحزب فلسطيني أو عربي بمثل هذا الإهتمام والمتابعة الرسمية والشعبية والإعلامية، اللذين حظي بهما مؤتمر فتح / اللجنة المركزية / السادس، الذي عقد في بيت لحم المحتلة. وقد يمر وقت ليس بالقصير على انفضاضه ليظل مبعث إنشغال المنشغلين بالآثار والذيول المترتبة عليه، وما قد تستدعي نتائجه من تداعيات وانعكاسات، لعل فيها ما سوف يبرر مثل هذا الذي حظي به، على الصعيدين الوطني والقومي، من الإهتمام والمتابعة.
المؤتمر العام الذي تأخر لما يقارب العقدين من الزمن، لم يحظ بهذا كله لما يعنيه فقط مسمى فتح في الذاكرة الفلسطينية والعربية، والمقترن دائماً بإطلاق الرصاصة المناضلة الأولى، التي أذنت بإندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي كانت قد فجرتها وقادتها لعقود وقدمت على مذبحها وخلال مسيرتها القوافل من الشهداء من قادة وكوادر وفدائيين ، وهذا ما أحاله واقعها الراهن وإنعطافتها الأوسلوية إلى التاريخ، وإنما لكونه ينعقد في مرحلة مصيرية خطرة وصعبة وتصفوية تمر بها القضية الفلسطينية، وإن مجرد انعقاده، موعداً ومكاناً، وبتركيبته وتشكيلته التي كان عليها، قد حسم الكثير من اللغط الداخلي حول التوجهات والخلافات الداخلية التي سبقته وكثر الكلام حولها، ويعد نقطة مفصلية بالنسبة لفتح الأوسلوية، بل والقضية عموماً، وسيكون له ما بعده.
وعندما نقول التوجهات و الخلافات، فنعني بها ما كان يطفو أو يثار، لاسيما بين مركز قرارها وقاعدتها، أو بين رموزها أحياناً. أما بعد انعقاد المؤتمر وما جرى خلاله، فالواقع يقول أن هذه التوجهات قد حسمها خطاب أبو مازن في افتتاح المؤتمر، أما ما تدعى الخلافات، وهي كانت وتظل في التقليد الفتحاوي طبيعية، فقد كانت هامشية وانتخابية، لاسيما في غياب التقارير الحركية، والبرنامج السياسي، اللذين إستعيض عنهما بهذا الخطاب، الذي لم يأتي فيه صاحبه بما هو مختلف عن أفكار أبو مازن العامة المعروفة التي تعكس منطقه ونهجه وتوجهاته المعهودة. وعندما تم فوزه بالإجماع وبالتزكية رئيساً للجنة المركزية الجديدة، تم موضوعياً إقرار برنامجه المستعاض به هذا، هذا الذي يعني ببساطة إكمال مسيرة تسووية بدأت قبل أوسلو، وتجديد الإرتهان لخيارها الوحيد، وهو، فاوض، وفاوض، وفاوض إلى ما شاء الله، وإقبل ما عساهم يعطونه لك... وعموماً، إنهاء شرعية ثورة لصالح شرعية سلطة بلا سلطة و حت الإحتلال.
لقد بدا وكأنما المؤتمر قد عقد فقط لينتخب من انتخبهم، حيث في ظل انعدام النقاشات السياسية، وواقع الإبتعاد عن مقاربة كل ما هو استراتيجي، كان المطلوب أن تتماهى حركة كانت ثورية مع سلطة نظرية، مع تغيير في الوجوه بلا تغيير في الجوهر. وحيث تمت مبايعة رئيسها، أُزيح الحرس القديم لصالح الجديد الذي تعكس جدته إعادة ترتيب توازنات، أو إفرازاً حركياً للقوى صاحبة القرار في الحركة-السلطة، أما ما بقي من قلة قديمة من الرموز فيظل هامشياً، أو هم ما كانوا دائماً كذلك، أو عندما يكون القرار فهم سيظلون كالعادة في منزلة صفر حافظ منزله!
هنا، يجب الانتباه إلى زيف بعض التوصيفات الإعلامية التي تحدثت عن صراع أجيال، إذ أن الغالبية التي جاءت إلى اللجنة المركزية هم شيوخ لا شباب، وقد انقسموا ما بين مفاوض ومستشار للرئيس ومسؤول أمني، حيث فاز، كما هو معروف، أربعة من قادة الأمن والمنسقين مع الاحتلال، وإجمالاً كان تنافساً بين من هم في خندق واحد وتحت خيمة واحدة، ويتصارعون على مناصب وليس على ترجيح برامج أو رؤى أو حتى صلاحيات. واقتصر هذا الميدان على جماعة الداخل، أما الخارج، الذي لم يعد في الحسبان الأوسلوي، فلم يكن منه فائز إلا واحداً هو من داخل السرب وليس من خارجه، وربما لما سيوكل إليه من مهام تقتضيها أهمية الساحة التي قدم منها، ونعني اللبنانية، أو دوره المنشود في سياق ما قد تخبئه المرحلة التسووية القادمة....
سوف تتكشف في الأيام القادمة الكثير من الملابسات التي أحاطت بالمؤتمر، أعداداً، ووقائعاً، وإخراجاً، وبدأ من الآن تكفُّل جزءٍ من الخاسرين بنشر غسيله، وهم يعدون بالمزيد في قادم الأيام، وقد لا يكون مهماً الكلام عن تركيبة المؤتمر، وكيف جرى الإعداد له، أو من دُعي ومن استُبعد، وكيف جرى التصويت، أو ما يقال عن استبدال فائز بخاسر، وهكذا، وكل هذا الجدل والإتهامات أو التراشق الذي تعالى حتى قبل انفضاض المؤتمر، لأن هذه الأمور إنما هي لا تفاجئ عارفاً بواقع هذه الحركة راهناً، ثم إنما هي تحصيل حاصل بالنسبة للظروف الوطنية والقومية والدولية التي أحاطت بعقده، أو سهلت له، بل التي قضت أو ساعدت بأن يكون على مثل هذه الصورة وهذا المآل وليس عداهما.
ثم علينا أن لا ننسى أنه إنما مؤتمر تقرر أن يعقد في ظل احتلال يمنع من يمنع من القادمين من الخارج ويوافق على من يوافق على قدومه، وبتمويل من ما تسمى "الدول المانحة"، وتحت عين ما يدعونها "الشرعية الدولية" وهاجس الإنسجام معها والإستقواء بها، إلى جانب استنكاف عدد غير قليل من الأعضاء عن هذا الحضور، ثم ما أحيط بعدم حضور 400 عضواً من غزة له و طريقة تصويت من صوت ومن لم يصوت منهم، فتضخمه رغم عدم حضور من لم يحضر، بحيث أن مؤتمراً عاماً للحزب الشيوعي الصيني سوف يبدو متواضعاً إزاء عديد من حضره، وعليه، كان ليس غريباً أن يسفر عما أسفر عنه، أي أنه، وباختصار، كان انعكاساً طبيعياً لواقع "فتح الداخل"، أو "فتح السلطة"، أو فتح الأوسلوية...
إن المفارقة الخطرة هنا، هو أن مثل هذا المؤتمر، الذي لم تكن من نقاشات سياسية جوهرية فيه، سوف تكون له نتائج سياسية كبيرة مفصلية وخطرة سيكون لها أثرها على جوهر القضية ومسارات الصراع في فلسطين، حيث سمعنا من أحد الرموز الأوسلوية الكبيرة الخاسرة فيه، كلاماً ما كنا سنسمعه منه لو فاز، إنه شيخ المفاوضين و أحد رمزيّ أوسلو، أبو علاء أحمد قريع، الذي دفعته الخسارة إلى هجاء المؤتمر والمؤتمرين والتشكيك في شرعيته، متحدثاً عن "ترتيبات خلف الستار" أعدت لاستبعاد من استبعد من الفوز، في سياق ما وصفه ب "البحث عن بصّيمة"... سمعناه يقول:
إن "هناك عروضاً لدولة مؤقتة وحل بلا لاجئين وقدس، وتقطيع أوصال، وكتل استيطانية باقية، ويبدو أن بعض الناس يضعون ذلك في الإعتبار"!
على أية حال، وقبل انجاز فرز أصوات انتخاب الهيئة الثانية المطلوب انتخابها الذي طال وبدأ التشكيك في نتائجه وما سيؤول إليه، المجلس الثوري، بدأ العديدين مع أبو علاء في نشر الغسيل... والأيام القادمة قد تأتي بالمفاجآت، في حركة تنوء تحت ثقل موروثها النضالي وكبواتها... فجرت الثورة الفلسطينية المعاصرة وقادتها، عندما كانت تقدم قوافل شهدائها فدائيين ومناضلين و كوادر وقادة لتحرير كامل فلسطين... وآن كان شعارها هويتي بندقيتي... وعندما جنحت عن هذا الذي إنتهجته و إنطلقت من أجله أضحت فتوحاً، وانتهى الجانحون منها اليوم إلى فتح بيت لحم... وبدأنا من الآن، وقبل انفضاض مؤتمرها، نسمع عن استقالات فردية وبالجملة، واتصالات منذرة بدأت تدور بين من ابتعدوا أو استبعدوا أو خسروا تتحدث عن ما أطلق عليه "فتح الصحوة"، ومسارعة رئيسها المتوّج ومعه اللجنة المركزية الجديدة إلى نفي أي بداية إنشقاقات أو "صحوات" محتملة!