كتب أحد الزملاء، "آن الأوان لمحاكمة جنرالات وساسة إسرائيل على اختلاف انتماءاتهم، بتهمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية". إنه في هذا إنما يعبّر عن بعض من تمن دائم ورغبة مشروعة وهاجس منطقي ظل يخالج نخبنا وعامتنا على السواء، طيلة قرن من الصراع مع عدو باغ لايرعوي له مثل طبيعة عدونا، ووجوده أصلاً، يظل نقيضاً لكل ماهو إنساني، بل ويشكل جريمة مستدامة ضد الإنسانية، كما أن استمراره حتام سوف يظل مقترناً بتوالي مسلسل من الجرائم بحقنا لن ينتهي مادام موجوداً.
بيد أن واقع ووقائع وراهن عجزنا المقيم المستشري، وتراكم خساراتنا المتوالية التي عمّقت ان**اراتنا الحزينة، وحصاد تجاربنا المريرة المحبطة طيلة وقوفنا المهين أمام أعتاب العدالة الإنسانية الغائية، بل الميئوس من إنصافها، أبقت هذا التمني مكبوتاً، أو في حكم الرغبة الدفينة، التي تظل تغشانا حلماً عزيزاً يراودنا سرعان ما تئده هذه التجارب المشار إليها آنفاً.
هنا، الذاكرة حبلى بما يثقل تذكَّره، ويصعب على النفس تعداده، بدءاً بالسابق واللاحق على دير ياسين من المذابح، التي توالت من بعدها وهي كثيرة، ومنها، الأسرى المصريين، بحر البقر، صبرا وشاتيلا، الحرم الإبراهيمي، قانا، وجنين، وما تلى حتى محرقة غزة... بل وحتى فظائع أخرى مثل استئصال أعضاء الشهداء وبيعها في تجارة دولية يبدأ طريق حريرها البشع من تل أبيب ولا ينتهي في نيويورك... وكل ما يُعدّ، على فظاعته ووحشيته ولا إنسانيته أو لا آدميته، مجرد تفاصيل صغيرة من تفاصيل جريمة العصر في فلسطين، أو الجريمة الأم، التي هي السطو المسلح المعزز دولياً، أو غربياً على الأقل، لسرقة وطن وتشريد شعب واغتصاب حقوق أمة في جزء عزيز من ترابها القومي، وبالتالي، محاولة دائبة لتزييف التاريخ وشطب الجغرافيا، الأمر الذي تبعه ارتكابات مبرمجة من الإبادة المعنوية والسياسية والمادية المستمرة للهوية الوطنية والوجود الوطني للآخر المعتدى عليه، بغية طمس حقائق ووقائع تشهد بما أُقترف وسيظل يُقترف ويُرتكب في سياق هذا الذي وصفناه بالجريمة المستدامة.
الجديد هنا، إذن، هو الكلام لأول مرة عن "آن الأوان"، الذي يع** أملاً أو تفاؤلاً وحتى ثقة ليس هناك ما يرجحها أو يؤشر عليها في العدالة الدولية المزعومة فيما يتعلق بحقوقنا تحديداً، وكأنما الحلم المشروع الشارد دهراً أصبح الآن في متناول اليد، أو هو غدا فجأة قاب قوسين أو أدنى منها.
مبعث هذا التفاؤل المفاجئ الذي دعى إلى مثل هذه الثقة بأنه "آن الأوان" من قبل من لا ألومه، ولدى كثيرين سواه في بلادنا من اللذين يحلو لهم أو يدفعهم تفاؤلهم إلى التعلق بقشة العدالة الدولية، ومعهم بعض من الهيئات الدولية الحالمة بعولمة العدالة العاملة في مجال حقوق الإنسان، أو هذا النتف من الواحات الإنسانية، المشكورة لمجرد وجودها في متاهات بيداء المصالح الكونية للدول المهيمنة البريئة كلياً من تهمة المعايير الأخلاقية... مبعثه هو تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية التابعة للأمم المتحدة التي حققت طيلة ثلاثة أشهر لتضع تقريرها حول الجرائم الإسرائيلية إبان محرقة غزة، والتي يرأسها القاضي ريتشارد غولدستون، أو ما يعرف الآن بتقرير غولدستون، أو الوثيقة النادرة المعروضة الآن في بازار مساومات مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة في جنيف، على هامش المحاولات الساعية لتصديقه ليقدم من ثم لمجلس الأمن، والمحاولات الأمريكية-الإسرائيلية-الأوروبية المعا**ة للحؤول دون ذلك، أو ما تشهده جنيف من معركة تحت الطاولة وفوقها لإفراغ الحكاية من مضمونها. هنا مرة أخرى نحن نجد أنفسنا أمام ما هو شبيه بحكاية ديربن الأولى والثانية التي لا ندري إن كان في المستقبل ستكون لها ثالثة... على أية حال، وبغض النظر عن نتيجة بازار جنيف الإنساني، رفضاً أم إقراراً، وفي الحالة الأخيرة، ليس هناك من شك في أن الفيتو الأمريكي سوف يتكفل بوءده في مجلس الأمن، أو كما يريد الإسرائيليون، وفق تعبيرهم، "دفنه"... على أية حال، وقبل الفروغ من كتابة هذا المقال، جاءت الأنباء بفضيحة خبر انفضاض البازار وتأجيل التصويت على التصديق من عدمه إلى دورة المجلس الإنساني العتيد القادمة، أي بداية دفنه بمساهمة ليست مستغربة ولها سوابق من قبل سلطة رام الله!
وإذا كان كما يقولون، أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام، فإن الظلام الدولي له من السوابق والحكايات ما يجعله مخيماً قبل وبعد شمعه غولدستون المفاجئة، فالمؤجلة! إذ كان هناك منها حكايات لم يبتعد بها عنا الزمن، مثل حكاية شارون صبرا وشاتيلا مع برو**ل، مروراً بلجنة إنسانية لارسن التي تراجعت قبل أن تبدأ إبان مذبحة مخيم جنين وقبل أن يجف دم ضحاياها... وأخيراً، وقبل أيام فحسب، حكاية مهزلة حيادية العدالة البريطانية المهدورة أو تسامحها المشين مع مجرم عريق مثل إيهود باراك.
المتفائلون منا، اعتبروا تقرير العم غولدستون خطوة مهمة قد يكون لها ما يتبعها وإن طال الزمن، ويدعوهم إلى هذا المرتجى، هذه الردة فعل المحمومة لدى الإسرائيليين، التي لا أرى أن مبعثها كله كان خوفاُ من أن تطالهم عدالة صاحبهم "المجتمع الدولي" المأمونة الجانب لعقود، وإنما أغلبه أنهم قد تعودوا على أن يدللوا من قبل هذا "المجتمع الدولي"، أو الغربي بعنوانه الأمريكي، ويوضعوا في موضع العصمة من مسائلة القوانين والقيم والأعراف الدولية، ولدرجة أنهم قد أصبح فوق طاقتهم مجرد احتمال فكرة أن يتهمهم أحد، ناهيك عن أن يدينهم، أو حتى يذكرهم بما هو فيهم... فهاهو نتنياهو يصف حكاية غولدستون هذه، وهو اليهودي، من أولها إلى آخرها، بأنها "محكمة تفتيش نتائجها معلنة سابقاً"! رغم أن نيكول ابنة غولدستون، دافعت بضراوة عن يهودية والدها في مقابلة إذاعية إسرائيلية جازمة بأن والدها المغضوب عليه وعلى تقريره هو صهيوني ويحب إسرائيل وأنه قد "خفف من قسوة التقرير، ولو كان غيره لخرج التقرير أكثر قسوة بكثير"!
أنا، أصدق نيكول، إذ ماذا بوسع غولدستون أن يفعل بآلاف الوثائق والإثباتات والقرائن والشهادات الدامغة التي كان العالم من أقصاه إلى أدناه يشاهدها بالصوت والصورة من على شاشات الفضائيات المتعلقة بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل إبان يوميات محرقة غزة. هل له من سبيل إلى تجاهلها حتى لو أراد؟؟!!
أصدق نيكول، لأن والدها الذي تصفه بالصهيوني المحب لإسرائيل، تجاهل أن يدرج في تقريره صفة جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها إسرائيل مخففاً، والتي لا يخطئ حدوثها منصف...
وأصدقها، لأنه حاول المساواة بين الضحية والجلاد ما استطاع، ولدرجة أنه جعل من مسألة ارتكاب جرائم الحرب قسمة ضيزى بين إسرائيل والفلسطينيين، بدعوى أن هؤلاء المستضعفين المحاصرين في غزة والذين يواجهون جيش الغزاة المدجج اللجب قد أطلقوا جملة من الصواريخ البدائية على المستعمرات المحاذية التي تحتل ترابهم الوطني التاريخي، والتي لا أثر لها عملياً، سوى بعض المعنوي، الذي يقول: نموت واقفين ولن نركع... نرفض التسليم والتفريط بما اغتصبتموه منا، وسنقاومكم حتى العودة.
لابأس فلنخض مع أعدائنا معاركنا من أجل حقنا المغتصب على كافة الجبهات وبشتى الوسائل المتاحة، ومنها طرق باب العدالة الدولية الغائبة، أو المشاركة أصلاً، دعماً وصمتاً، في الجريمة المستدامة المرتكبة ضد أمتنا في فلسطين... لكن دون أن ننسى للحظة أن الحكاية مجرد تفصيل من تفاصيل الجريمة الأم النكبة والاغتصاب والعدوان الدائم لكيان يستحيل التعايش معه ولا خيار لنا إلا مقاومته... وأن القضاة في جنيف ونيويورك هم الخصم والحكم!
لنسأل أنفسنا، من الذي شرّع وجود إسرائيل واغتصاب 80% من فلسطين التاريخية سوى الأمم المتحدة، هذه التي هي الآن وقف أمريكي ومرتع لمساومات القوى العظمى وشراء ذمم الصغرى، والتي إذا ما افترضنا أن تقرير غولدستون كان سيجاز ويصادق عليه ولم يؤجل التصويت عليه، ومن أسف بطلب من الطرف الذي يدعى "فلسطيني"، فلسوف تكون نهايته كجاري العادة في أرشيفها، مثله مثل حبل مسد سالف القرارات المدفونة في قبو الهيئة الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية؟!
ثم، ولنضع القضية الفلسطينية جانباً، أين المدعي العام الدولي أوكامبو، فارس العدالة الدارفورية الكاريكاتورية، مثلاً، من ملفات مثل، سجن أبو غريب، ومتوالية مجزرة الأعراس الأفغانية، ومذابح المدارس الدينية البا**تانية؟!
قلنا، أنه إلى جانب معهود الإنتقائية الغربية المعروفة، نحن لسنا إلا في واقع من يجد نفسه بصدد الوقوف المعتاد على أعتاب الخصم والحكم... وعلينا أن ندرك، ولو متأخراً، أنه لن يتغير حال المستجير والمستجار به الجائر، إلا إذا ما توقفنا أمام المثال الإيراني وحاولنا الإفادة منه، حيث أجبرت الإرادة السياسية والعناد المقترن ببناء الذات والثبات على ما يعده الإيرانيون حقاً من حقوقهم الوطنية... أجبر الخمسة الكبار وسادسهم على الجلوس مع من كانوا يهددونها بالويل والثبور و"كافة الخيارات مطروحة"، والاضطرار إلى الاجتماع مع طهران جماعة وفرادى في جنيف والاستماع مكرهين إلى روايتها التي تعيدها على أسماعهم دون أن تتنازل أو تتزحزح قيد أنملة عن مواقفها... الحقوق تنتزع لا تستجدى، وعندما يتوفر لنا ما يؤهلنا لمثل هذا الحال، عندها فحسب يحق لنا أن نتفاءل، بل نفرض لا نحلم بما يجعلنا نثق بأنه قد آن الأوان لمحاكمة ومعاقبة مجرمي الجريمة المستدامة... وحتى رعاتها الذين هم اليوم كما أثبتت لنا جنيف الخصم والحكم!
( *** )