الحركة الشعبية العربية ضرورة تاريخية بعد إنشكاف وسقوط النظام الرسمي العربي
إن مفهوم الوطن عند الأمم التي حققت وحدتها القومية، واستكملت شخصيتها السياسية، يكون واضح المعالم ومستقر الشكل، عندها تكون الأمة مستقلة موحدة، فتتعيّن حدود الوطن بحدود الدولة القائمة التي تجمع شمل الأمة بأجمعها تحت راية واحدة.
وتختلف الرؤى وتصبح موضع خلاف ومثار جدل بين المواطنين، عندما يتم التفريق بين الوطن في حدوده الضيقة وبين الوطن المنشود في نفوس الجماهير التي تتطلع الى غد افضل من خلال تحقيق تحررها وحريتها وهي أكثر قوة ومنعة في مواجهات التحديات.
إن اختلاف النظر بين الفريقين، فريق الذين يقصرون أنظارهم داخل حدود الدولة التي ينتسبون إليها، من غير أن يفكروا بما وراءها، وفريق آخر يناضل لتحقيق تطلعات الشعب في تحقيق الوحدة والمناعة القومية.
وتزداد الأمور تعقيداً في حالة أمتنا العربية، فهي محط أطماع الدول الاستعمارية بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها النفطية الهائلة.
ما سبب التجزئة؟
ومن الطبيعي أن الدول الاستعمارية التي تطمع في بلادنا، تجد في هذه الأوضاع والاختلافات مجالاً واسعاً للقيام بالدسائس والدعايات التي تضمن لها مصالحها الخاصة، وتعمل لإذكاء نيران الخلاف بتقوية الإقليمية بشتى الوسائل والأساليب لتحول دون اتحاد الأمة لتكوين دولة قوية.
وفي أمتنا العربية ماتزال هناك عدة عوامل متنوعة ومتضاربة تفعل فعلها وتعمل على زيادة البلبلة في الأفكار والنزاعات، وإشاعة الفوضى في البلاد، وإضرام نيران التفرقة بين المواطنين، وهناك شعور متزايد بالألم لدى المواطن العربي وهو ينظر الى أحوال البلاد، قسم مقيد بأغلال الحماية والتبعية والارتباط المباشر بالاستعمار في أشكاله الجديدة، والمتمثل في السيطرة على الثروات والأفكار والسياسات بحيث تحولت بعض "الدول العربية" الى مجرد أدوات لتنفيذ سياسات خارجية هدامة، وباتت بعض الدول تتمسك بحدود اصطناعية رسمها الحكم الأجنبي منذ عقود، وتعتبر المحافظة على تلك الحدود من أوجب الواجبات الوطنية التي لا يجوز التفريط فيها بأي حال من الأحوال.
هذا توصيف لواقع يعيشه المواطن العربي، أصبحت الأوضاع الراهنة تثير القلق والاشمئزاز، وبالرغم من الإمكانيات المتاحة وهي هائلة في الحالة الحاضرة ولكنها منهوبة ومسخرة لخدمة المصالح الأجنبية، وهي هدامة في الأوضاع الداخلية، ووجدت السياسة الدولية في الأحوال الحاضرة فرصة مواتية للتأثير على معظم الدول العربية، وتسللت عبر شعارات السلام والتسوية، وأضعفت بذلك دول عديدة وأحدثت بلبلة خطيرة في السياسة العربية، وظهر اتجاه جديد وجد له أنصاره، وبدلاً من المكانة المفترضة التي يجب أن يتمتع بها العالم العربي في السياسة الدولية، التي تستند الى وقوعه في ملتقى القارتين، والى سيطرته على هذا الملتقى بمخالب قوية وأجنحة واسعة، تمتد الى طرفيه، الى مسافات شاسعة، إن انشطار العالم العربي اليوم، أفقده المكانة وذهب بكل ما له من أهمية سياسية واستراتيجية لمصلحة الشعب العربي
دور السياسة الغربية
إن السياسة الدولية، ولاسيما الغربية والأميركية منها، بذلت جهوداً لإضعاف العالم العربي، منذ أن زرع الكيان الصهيوني في جسد الأمة، ونشأ النظام الرسمي العربي في الأصل مؤسساً على واقع الدولة القطرية، فقد تكونت جامعة الدول العربية في عام 1945 من سبع دول عربية مستقلة، وأوجد ميثاقها نماذج للتفاعل بينها لا تتجاوز هذا الواقع، ولكن الفكر القومي العربي نادى بالصيغة الاتحادية "الفدرالية" كصيغة منشودة للوحدة العربية، بحيث لا تلغي الكيانات القطرية، وإن قامت منها منظومة موحدة في المجالات التي لا يمكن تصور الوحدة بغيرها، كمجالي السياسة الخارجية والدفاع، وأيضاً بقيت فكرة الكيانات القطرية مستنكرة عملياً، فهي عامل ضعف، وتم تحميلها مسؤولية تعويق العمل الوحدوي.
وفي السنوات الأخيرة، فرضت جملة من التطورات على كافة الأصعدة، منها القطرية والعربية والعالمية، وأعطت مزيداً من المناعة للدولة القطرية، وأصبحت المناداة بوحدة عربية تبدو وكأنها في تناقض مع الديمقراطية وخاصة تلك المستوردة والمستظلة بمشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي، وعلى الصعيد العربي بشكل خاص ساهم تعثر مسيرة الوحدة العربية، في تقديم ذريعة لبناء النظام العربي على أساس الدول القطرية كمسألة دائمة وليست انتقالية، وعلى الصعيد العالمي، إن قيادة النظام العالمي في مرحلة القطبية الأحادية الأميركية لا يلائم مصالحه أن ينتقل النظام العربي باتجاه حالة وحدودية، ومن ثم سعت هذه القيادة، وما زالت بشتى الوسائل الى تكريس الوضع الراهن في النظام العربي.
التحديات الماثلة أمام العرب
وفي مرحلة الأحداث "والثورات" العاصفة زادت الأمور تفاقماً وباتت الفرصة مواتية للقوى الاستعمارية لإحداث شرخ كبير في جسد الأمة العربية والمساهمة في زيادة تفتيت القطريات القائمة ومحاولة القضاء على مجمل التراكمات الإيجابية التي تحققت والتي شكلت رافعة لقوى المقاومة والممانعة لمواجهة المشاريع التي تبغي السيطرة على الموقع والثروات وإحداث المزيد من التفتيت والفوضى في المنطقة.
التحدي الذي يواجه النظام العربي بات أخطراً بكثير، من تجاوز الواقع القطري والجدل حول القطرية والقومية غيّب جدلاً آخر حول مسألة أكثر أهمية وهي هشاشة الدول القطرية ذاتها، ليس بسبب صد محاولات الوحدة العربية فقط، وإنما بسبب عجزها عن بناء مؤسسات قادرة على التعامل مع واقعها الإثني والطائفي والاجتماعي، وبسبب ارتهانها ودورانها في مسار محدد من التبعية وفقدانها السيطرة على مقدراتها وعجزها الانتقال الى مرحلة اجتماعية أكثر تقدماً، وأكثر من ذلك وجدت الدول الاستعمارية في تلك الدول القطرية تربة خصبة لتنفيذ أجندتها بامتياز، وجعلت من إمكانيات تلك الدول مجرد رصيد احتياطي لإطفاء أزماتها المالية والاقتصادية، وذهبت الى أبعد من ذلك بكثير، وتمكن العدو الصهيوني من التسلل الى تلك البلدان تحت عناوين التطبيع والسلام والتسوية الواهمة.
النظام العربي الى أين؟
وأصبح النظام العربي يواجه في الوقت الراهن حالة من الضعف البين في مؤسساته، وبصفة خاصة المؤسسات السياسية، وبات الاحتلال واضحاً في الميزان بين قوة الفرد وضعف المؤسسة في عملية اتخاذ القرار السياسي، وتفاقم التدخلات الخارجية في عملية صنع القرار، وبعد ان كانت عملية التطور الوحدوي قاصرة نظراً لارتباطها بإرادات "الحكام" وليس بقرار المؤسسات، فتأرجحت في فترة زمنية قصيرة، بين "الوحدة" وبين "الصدام" وهذا يعني أن دور الحكام لم يكن كافياً لضمان نجاح تلك المحاولات الوحدوية، وغياب الإرادة الشعبية المسلحة بوعي وإرادة سليمة مؤطرةً في مؤسسات حقيقية وخطط برامج تتعلق بعملية التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو أحد العوامل الأساسية التي قادت الى فشل التجارب الوحدوية.
إن الإسراف الذي أبداه الفكر القومي العربي في رد الهزائم والإخفاقات في تحقيق الوحدة العربية الى العوامل الخارجية لا يستقيم مع الوقائع الموضوعية والذاتية، ولا شك أن ثمة فعلاً خارجياً دائماً يسعى الى الحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، فالقوى العالمية وبالتحديد الدول الاستعمارية التي أنشأت الكيان الصهيوني في فلسطين وفي قلب الأمة، تعلم أن التوحد العربي ارتبط دائماً عبر التاريخ بالقدرة على التأثير في التوازن الدولي وتم النظر اليه من خلال زاوية المصالح الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص، ولذلك فإن أي نجاح حقيقي في تحقيق وحدة عربية يهدد مصالح تلك القوى، وهذا كله ينبغي أن يصرف الانتباه عن أن العوامل الأصيلة في إخفاق محاولات الوحدة العربية هي عوامل ذاتية أي عربية لأن الفعل الخارجي يتوقف على الخصائص البنيوية للمستهدف في عملية التأثير، فلولا ظواهر الضعف الداخلي لتجربة الجمهورية العربية المتحدة "مصر وسوريا" لما وقعت فريسة لذلك الفعل الهش المتمثل في انقلاب الانفصال المؤيد بالتأكيد من قوى دولية وإقليمية عديدة.
هل من مشروع نهضوي؟
المهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة وهي ملقاة على عاتق أولئك الذين يتطلعون بإرادة واعية ويحملون مشروع حضاري نهضوي عربي جديد، ويعتمد قاعدة شعبية كبيرة ومبنية على أسس مؤسساتية، وعليهم استخلاص الجوانب الإيجابية في واقعنا العربي، ورغم الحالة الراهنة والواقع المتردي، هناك اليوم تحديات خطيرة تواجه أمتنا وشكل جديد من التمزق والتفتيت ينهش في جسد الأمة، ونحن أمام عملية تاريخية وليس أمام تقييم لحظي، وعلى الرغم من سوء الوضع العربي في الصراع مع الكيان الصهيوني وتنصل العديد من مسؤولياتهم وإلقاء التبعات على الضحية لإيجاد الحلول والتسويات غير المتوازنة التي تفرط بالحقوق، في عملية أقل ما يقال عنها، تواطؤ مكشوف لتصفية القضية الفلسطينية وتغيير مجرى الصراع باتجاه آخر مغاير تماماً.
الوحدة أمل الجماهير العربية
والسؤال في ظل الأوضاع العربية الراهنة، كيف تحقق الوحدة؟
إن مزايا العمل الجماعي وصفة مؤكدة لتحقيق النجاح، ونلاحظ ما يجري في العالم اليوم من اتجاه نحو التكتل، والنظر الى مضار التجزئة وضعف النظام القطري في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، هذا الى جانب العوامل الموضوعية هذه، هناك حركة الشعب العربي بمجموع فئاته الاجتماعية والثقافية والسياسية التي باتت تدرك حجم المخاطر الماثلة الناجمة عن التجزئة وفقدان التكامل الخلاق لإمكانيات الأمة، المادية منها والمعنوية، والشعب العربي يعبر عن موقفه بمقدار وعيه السياسي وتحسسه لمصالح حياته اليومية، وبحسب ثقافته العامة، ومن العمل الفردي الى التحرك الجماهيري المنظم والحريص والذي يبني ولا يهدم، يراكم الإنجازات ولا يبعثرها.
إن التحولات الحاسمة في التاريخ كانت من صنع الشعب، والتغييرات الجوهرية التي حصلت في الوطن العربي منذ بداية النهضة القومية الحديثة كانت بمثابة محصلة لفعالية جماهير الشعب العربي، إن تأطير الشعب العربي ضمن مؤسسات عمل فعالة من شأنها إحداث نقلة نوعية في العمل العربي المشترك يمكن أن تتأثر الى حد بعيد بموقف الشعب، ونضال الجماهير يمكن أن يضغط ويؤثر في عمل الحكومات.
والشعب قادر على إحداث عملية التغيير نحو الأفضل، وهذا حق من حقوقه، إن الإنسان ولد ومعه حقوق طبيعية لم توجدها ولم تمنحها الدولة، بل هو الذي أسس السلطة من أجل المحافظة على تلك الحقوق، وشرعية السلطة مستمدة من إرادة الشعب التي هي نقطة البداية، وهي مصدر الشرعية لكل ما تقوم به السلطة، والسؤال هنا، هل تعتبر الأنظمة العربية المتمسكة بالدولة القطرية، والتي تحول دون تحقيق الوحدة، معبر عن إرادة الشعب العربي؟
الأنظمة القطرية بنظامها وفئاتها السياسية الحاكمة تقف ضد الوحدة وتعمل على تقوية وضع التجزئة، والبعض في زمن "الثورات العربية ذهب الى أبعد من ذلك لمنع قيام منظومة مقاومة عربية وتعاون مع القوى الخارجية واستخدام المال والسلاح والإعلام المضلل للحد من قوة المقاومة العربية عندما شارك في المؤامرة ضد سوريا وشعبها وجيشها وقياداتها المؤمنة بخيار المقاومة.
إن نقطة البداية في التفكير الوحدوي، هي عدم شرعية الدولة القطرية، فالقومية تعني الإيمان بالأمة العربية والوطن العربي والقطرية لا تخدم مصالح الأمة.
الوحدة الشعبية العربية ... ثورة
الإنسان هو الجذر، أما المؤسسات فهي الجزء الظاهر من الشجرة، وأن السعي نحو الوحدة الشعبية هو عمل نضالي يتجه إليه المواطن العربي بوعي وإرادة، ويحدث فيه هزة تغير تفكيره وتصوب سلوكه، ويتحول من وضع السكون الى وضع الحركة، ومن حالة الخضوع للمؤثرات والغرائز الى الاستجابة للضمير والمبادئ ومن حالة العجز الى حالة الإبداع والحيوية من أجل إحداث التغيير المنشود، حيث تظهر التضحية والطاقات الكامنة التي تسخر من أجل تحقيق الأهداف المتمثلة بالوحدة، عندها تتسع دائرة العمل ويبدأ تحقيق الانجازات، وعندما يتغير الانسان ويتغير كل شيء، ويتم تحول الهدف من أمنية الى واقع.
إن الوحدة الشعبية العربية هي ثورة كبرى تتغير بها حياة العرب من حالة الركود الى حالة التقدم، وتتغير بها كل المنطقة، وعندها بالإمكان ترتيب سلم الأولويات ومصالح الأمة تصان في عملية تكاملية، لأن قوة الشعب هي الأصل، وعندها تظهر قوة جديدة تسيطر على الجزء الأعظم من مصادر الطاقة وتحتل موقعاً جغرافياً مهماً، وهذه المزايا هي ملك الشعب العربي ولأجياله وليس مرقعاً للقوى الاستعمارية المتصهينة والجائمة على مقدرات الأمة العربية من نفط وغاز ومواقع استراتيجية.
إن هذا التحول المنشود دونه عوائق عديدة، قوى داخلية في مقدمتها "دول قطرية" وقوى خارجية تقودها قوى الاستعمار والصهيونية، والأمر ليس مستحيلاً رغم المصاعب والمؤثرات المعادية، وعلى القوى الشعبية العربية أن تعي الحقيقة القائلة: "يجب التفريق بين عمر الأمة وبين أعمار الأفراد"، فالتحولات الكبرى تقاس أعمارها بغير أعمار الأفراد، والنضال من أجل الوحدة لا بد أن يكون طويل الأمد وتسخر له الإمكانيات.
أمتنا العربية اليوم أمام مفترق طرق والسؤال، كيف سيختار شعبنا طريقه السليم؟
لقد أثبت النظام الرسمي العربي بما لا يدع مجالاً للشك بأن محصلة قوته تكاد تساوي الصفر، أي أنها ناتج منطقي لتناقض مكوناته الداخلية، وهو قد أثبت فشله بوضوح تام والسؤال أيضاً ما الذي يعنيه، أن تقوم بعض الدول العربية مثل قطر والسعودية بتقديم الدعم لمخربين وقتلة لاستهداف بلد عربي مقاوم مثل سوريا، لماذا يقوم إرهاب الأعراب باستنزاف الدم العربي وتبديد ثروات الأمة، وماذا فعلت دول الأعراب من أجل القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى، كنا في الماضي نسمع بعض الشعارات ونطمح لرؤيتها تتحقق وحتى في أحلامنا (بترول العرب للعرب) وهذا صحيح إذا كانت الرؤية واحدة جامعة وموحدة، لأن مستقبل الشعب العربي كل لا يتجزأ في المعايير المنطقية، اليوم بات بترول العرب يسخر لقتل العرب لأنه أصبح في أيدي حفنة من الأفراد لا يهمهم إلا مصالح ورضا سيدهم الغربي الأميركي المتصهين.
اليوم ورغم المأساة الماثلة في مشهد النظام الرسمي العربي مازالت جماهير شعبنا العربي تنتظر التغيير المنشود، وهو لن يأتي إلا إذا قال الشعب كلمته الفصل، فالشعب هو مصدر القوة وهو الجذور والغاية وهو مصدر السلطة وهو صاحب المصلحة في صنع مستقبله ويكفي النظام العربي التغني باسم الشعب، بينما يحكم على الشعب بحاضر ومستقبل معدم وتهدر ثروات الأمة، وإذا كانت محصلة جهد الأنظمة قد فشلت في صناعة الوحدة العربية لأنها ضلت طريقها، فالشعب اليوم هو المعني بتحقيق وحدته الشعبية وبناء مؤسساتها الحقيقية، الفرصة سانحة أكثر من قبل، ولن تضيع.
محمود صالح