ما بعد غزة... الناخب " الاسرائيلي " و رهانات تسوويي العرب
عبد اللطيف مهنا
ليست نتائج الإنتخابات " الاسرائيلية "، أو هذا الحدث الذي شغل و يشغل هذه الأيام المنطقة و العالم، أول و آخر ما أثبت و يثبت حقيقة ليست في حاجة إلى برهان... حقيقة لطالما حاول دعاة مقولة "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً" من العرب تجاهلها، أو دأبوا على تغييبها و هم يصرّون على إنتهاج خيارهم هذا بتهالك عجيب جافى و يجافي أبسط قواعد المنطق الذي يحكم طبيعة الصراع في بلادنا... حاولوا تغييبها، بالرغم من
أنه بإمكاننا القول إنها لم تغب يوماً عن ذهن سواهم، و لطالما كانت واردةً في أدبيات الصراع على فلسطين، و ماثلة للعيان دائماً في حقب مواجهة المشروع الصهيوني و من خلفه صانعيه و حماته الغربيين، و منذ أن كان... الحقيقة الغائبة الحاضرة " إسرائيلية " تقول إن وجود مثل هذا الكيان الاستعماري العنصري الغاصب، ذو السمة الإحلالية القائمة على نفي الآخر و الحلول محله، و المشبع بالإحساس بأنه كان و يظل غريباً عن المنطقة، هو أصلاً نقيض لمفهوم السلام. و أن طبيعته هذه لا تفهم سلاماً لا يعدل استسلام أصحاب الحق المعتدى عليهم، بل حتى لو كان هذا الاستسلام، فليس من شأنه أن يشفيه من عقدة قلقه الأبدي المستحكم على هذا الوجود المفتعل المبني على أنقاض حق مغتصب يطالب أصحابه باستعادته.
في الانتخابات " الإسرائيلية " هذه صوّت " الإسرائيلييون " لصالح منطق سائد لديهم، ترسخه قناعة تلازم طبيعتهم و عقدتهم، يقول إن القوة هي فقط ضمانة وجود مرفوض تم فرضه بالتآمر و القوة، و عليه كان التصويت لصالح الأقوى، و الأكثر مغالاةً و تطرفاً كان هو الفائز. و جاء هذا في سياق إنسجام نزوع موضوعي لمجتمع له طبيعة مجتمعهم ينحو باستمرار نحو اليمين، و اليوم أسهمت جملة عوامل مضافة في وصوله إلى مثل هذه الدرجة الفاقعة التي كشفت عنها صناديق الانتخابات الأخيرة، و التي تقول إنه حتى مجرد الكلام عن "سلام"، و لو وفق الترجمة " الإسرائيلية " لمفهومه، لم يعد مقبولاً لدى الشارع " الإسرائيلي " ، لاسيما و أن أكثر من ثلثيه هم مع طرد من تبقى من الفلسطينيين على أرض وطنهم السليب في العام 1948، بل لاحقاً باقي الفلسطينيين في المحتل منه في العام 1967، إذا ما سنحت الفرص و مكنت الظروف من ذلك.
كان الدم الفلسطيني هو وقود هذه العملية الانتخابية التي غابت عنها البرامج و عزّ ما هو مختلف عليه، و كان محركها فحسب هو كراهية العرب المستحكمة لدى " الإسرائيليين " ، أما نجمها فكان أفيغدور ليبرمان، الأكثر تعبيراً عن العنصرية " الإسرائيلية " و ثقافة "الغيتو" و مخزون أحقادها المعتقة. و الذي كان الفائز الأكبر، في حين أعلن المتقدمان الآخران، تسيبي ليفني و بينيامين نتنياهو فوزهما أيضاً... بل حتى الخاسر أيهود باراك أعلن فوزه المتمثل في نظره في بقائه واقفاً في الحلبة السياسية، هذه التي كان حزبه فيها هو الخاسر الأكبر.
اليمين المتطرف، من شاكلة "إسرائيل بيتنا"، "شاس"، "يهدوت هاتوراه"، "البيت اليهودي"، "الليكود"، أصبح يمتلك أكثر من نصف مقاعد الكنيست. أي خمسة و ستين مقعداً، ثلثاها للمتطرفين منه أما الثلث الباقي فلغلاة التطرف. أما من هم على يسار هؤلاء، و لا نقول اليسار، إذ لا ندري كيف نفرّق بين يسار أو يمين في إسرائيل، حيث لا نجد فارقاً حقيقياً هنا فيما يتعلق بالإستراتيجيا أو ما هو خارج التكتيك و المماحكات السياسية، و نعني "كاديما" الخارج من رحم الليكود، و من على يساره من بقايا حزب العمل، و يسار هذه البقايا، أي بقية "ميرتس"، فيمتلكون 44 مقعداً. و عليه، لا حكومة " إسرائيلية " بدون موافقة متطرفي اليمين أو مشاركتهم، بمعنى إما أن يشكلوها هم أو يمنعوا سواهم من تشكيلها، و عليه نرى الفائزين الذين لا يسبق أحدهما الآخر إلا بمقعد واحد، و نعني ليفني و نتنياهو، يتسابقان لاسترضاء ليبرمان، و الحظوة ببركات الحاخام عوباديا يوسف! حيث أعلن الأول شرطيه: القضاء على حماس، و وقف ما تدعى "العملية السياسية" مع فلسطينيي أوسلو، أما الثاني، فربما يبحث الآن عن نص تلمودي مناسب لطرحه تعقيباً على نتائج هذه الانتخابات التي تثلج صدره!
و لعل أهم ما كشفت عنه صناديق الاقتراع هو اضمحلال ما كان يدعى "معسكر السلام" المزعوم، بعد أن لم يحظ "ميرتس" إلا بثلاثة مقاعد، و بعد أن غنم "كاديما" بعضاً من حصة من هم على يساره و فاز عليه من هم على يمينه!
لقد عبّر الكثيرون من فريق "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً"، و بالطبع في المقدمة منهم فلسطينيو أوسلو، عن قلقهم على مسوغات تمسكهم بخيارهم البائس بالكلام عن خشيتهم من مرحلة من "شلل سياسي" إسرائيلي، أو حكومة برأسين، إلى ما إلى ذلك، بيد أن المرجح هو أن تستسلم ليفني لحقيقة أنها و إن فاز حزبها بمقعد واحدٍ أكثر من غريمها نتنياهو فإن هذا الأخير قد فاز بأغلبية الكنيست، و أنه عملياً الأكثر قدرة على انتزاع قرار تكليفه من قبل بيريز في الأيام القادمة و عليه، ربما تستعد إسرائيل الآن لما تدعوها "حكومة وحدة وطنية"، تجمع المتطرف مع المغالي تطرفاً... و يستعد نتنياهو إلى محرقة قادمة في الضفة على غرار مذبحة أولمرت، ليفني، باراك في غزة ليستفرد وحده بالفوز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة!
و حيث الإسرائيليون منشغلون بما أسفرت عنه انتخاباتهم، ربما سوف ينشغل معسكر "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً" من العرب بالبحث عن أعذار لراعي هذا الخيار الأمريكي ذي الوجه الأوبامي لفقدانه الحيلة أمام جنوح " الإسرائيليين " في هذه الانتخابات يميناً! و سيشجعهم في بحثهم طبعاً من لم يعترفوا سابقاً بنتائج الإنتخابات الأوسلوية الفلسطينية و يحترمون الآن نتائج الانتخابات " الإسرائيلية " من الأوروبيين! و كأنما هذه الانتخابات قد سارت " بالإسرائيليين " بما قد يؤدي بهم للسير بعكس ما تشتهيه سفن إدارة أوباما، حيث يتجاهل هؤلاء أن أمريكا عند اللزوم هي من تأمر و الكيان الصهيوني في مثل هذه الحالة هو من يلبي وينصاع فحسب. و حيث العلاقة استراتيجية و حتى عضوية و أكثر من تحالف و في النهاية إندراج مصالح الأخيرة تحت مظلة مصالح الأولى، فهي تظل بمنأى عن حسابات و تداعيات نتائج الانتخابات " الإسرائيلية "، و تدوم ثوابتها بغض النظر عما هو اسم من يحكم في الكيان ، أكان ليفني أو نتنياهو و حتى ليبرمان!
لقد ذكّرت نتائج الانتخابات " الإسرائيلية " العرب، مثلاً، بأن شارون كان قد وأد مبادرة سلامهم المرحومة فور ولادتها ذات يوم في قمة بيروت قبل سبعة أعوام، و جرفت محرقة غزة قبرها، و جاءت هذه الانتخابات لتذرو رمادها و تزدري بأولئك المصرّين على عدم قراءة الفاتحة على روحها... و فضحت التالي:
لقد أطلق فشل " الإسرائيليين " في حربيهما العدوانيتين على المقاومة في لبنان و المقاومة في فلسطين، اللتين فلّتا بصمودهما الاسطوري قدرة آلتهم العسكرية الهائلة و أثبتتا نجاح ما يعرف بحرب الشعب كبديل للحروب الكلاسيكية، وحشيتهم و عنصريتهم و تطرفهم الكامن من العقال، كما أجج كوامن ثقافة الغيتو و أحقاد أساطير الأزمنة الغابرة، و عزز من هذا التليد " الإسرائيلي " المتفاقم هذه البوارج الأطلسية الحربية التي خفت للإسهام في إحكام الحصار على غزة و إكمال ما عجز عنه " الإسرائيليون " ، و زاد من الغلو " الإسرائيلي " استفحال الخنوع الرسمي العربي و من سببوه ممن جنحوا لمسالمة عدو قلنا أن وجوده أصلاً هو نقيض للسلام، فكسروا بما هم عليه أجنحة أمتهم و ثلموا وجدانها و أهانوا أجيالها اللاحقة... و الأهم: لقد أسقط الناخب " الإسرائيلي " رهانات عربان التسوية!