سوريا: تعريب وتغريب وتخريب!
منذ أن بدأت الأزمة السورية على شكل أحداث متفرقة وكحركة احتجاجية ثمّ اتسعت مروحة المطالب المرفوعة متزايدة طرداً مع حجم التضخيم الإعلامي المأجور أو المسخّر لتنفيذ أجندة معينة ومشاريع مشبوهة تريد النيل من سوريا العربية وموقعها في خارطة المنطقة، سوريا مركز الثقل المقاوم في أمتنا، وهي رأس الحربة في مواجهة التحديات الخارجية، وهي الركن الأساسي في منظومة المقاومة والممانعة المتشكلة في المنطقة لمنع سيطرة أصحاب المشروع الغربي عليها، وأهمية سوريا في كونها البوابة البرية الوحيدة للبنان المقاوم، وتشكّل بموقعها الجغرافي العمق الاستراتيجي والجسر الى العمق الأبعد شرقاً، والمراقب للأحداث على المسرح السوري، عينه الأخرى على تداعيات ما يحصل وتأثيره في معادلات الصراع في المنطقة، ولكن ماذا كانت نتيجة الهجوم على سوريا؟ فشل، وتبيّن عقم ما خطط له الأعداء، وما يجري في سوريا منذ آذار الماضي هو قيام جماعات إرهابية تخريبية مسلحة قامت بالتعدي على المواطنين السوريين ومؤسسات الدولة بما فيها الجيش العربي السوري بهدف زعزعة استقرار البلد وأمنه وفتح الأبواب للتدخل الخارجي، ولجأ هؤلاء الى شعارات لا تمت بالواقع بشيء في حملة تزوير للأوضاع والحقائق وإثارة الفتن والنعرات الطائفية والتستر بالدين لتنفيذ مآرب ومشاريع بعينها، ورفعوا شعارات لإسقاط النظام وإقامة نظام آخر يؤمن مصالح أميركا والكيان الصهيوني ويمهد بذلك لسقوط المنطقة لصالح القوى الاستعمارية والتخلص من القضية الفلسطينية بتصفيتها نهائياً، وتأمين الاستقرار للكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة للقوى المتربصة بثروات هذه الأمة ومستقبلها.
الفتنة سقطت – أما الحوار والإصلاح فهو من خلال أجندة عنوانها المقاومة
أحداث المنطقة تتطوّر بسرعة، وطبيعة الصراع واضحة المعالم بات يجري على المكشوف، الهجمة التي تقودها الولايات المتحدة وينخرط فيها الحلف الأطلسي وحلفاء أميركا الإقليميون وفي مقدمتهم تركيا (التي تتعامل بطريقة تثير الريبة، وهي إن سجلت إيجابية بقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني، فإنها وضعت هذه الإيجابية بمهب خطيئة جعلت تركيا قاعدة متقدمة للأطلسي في وجه حقوق العرب وتهديد الجوار) وتضاف إليها السعودية وقطر وأخواتها من عرب "الاعتلال" تلك الدويلات المقايضة لوجودها بالثروة العربية الأساسية الممنوحة لأميركا ولدول الأطلسي، ويضاف إليهما بعض تجار السياسة في الخارج الذين يركبون ركوب المعارضة، مطالبين بالتدخل الأميركي والأطلسي لمساعدة (ثورتهم الافتراضية) وهي الواقع خدمة مذلة لجلب الأجنبي الى بلادنا وتدمير إنجازاتنا والقضاء على مستقبل أجيالنا.
وصلت هذه المشاريع الى ذروتها وكان نصيبها الفشل في النيل من سوريا وموقعها الوطني والقومي المقاوم الذي تجلّى في العراق وفلسطين ولبنان.
وأعلنت سوريا برنامجاً إصلاحياً على المستوى السياسي انطلاقاً من قناعات راسخة بأن الإصلاح يقويها في موقعها الوطني ومواجهة ما يحاك ضدها من مؤامرات خارجية.
المخطط الأميركي – الصهيوني يستهدف العالم العربي برمته من أجل تحقيق أمن "إسرائيل" ومصادرة الثروة العربية، وبعض قوى المعارضة وخصوصاً في الخارج، تستدرج التدخل الأجنبي لتكرار سيناريو العراق وليبيا.
لقد إلتزم الشعب العربي في سوريا بالموقف الوطني والقومي وإلتفّ حول قيادته وتحمل الحصار الاقتصادي العربي وتمسك بالثوابت في أحلك الظروف بعد الغزو الأميركي أرض العراق عام 2003، ووقف الى جانب لبنان خلال العدوان الصهيوني عام 2006 وشكّل عمقاً وسنداً للشعب اللبناني المقاوم، وهو اليوم يثبت رفضه للفتنة ويتصدى للمحاولات التي تستدرج التدخل الخارجي، وفي ظل الأوضاع التي تمر بها سوريا، أعلنت القيادة الحكيمة بقيادة الرئيس بشار الأسد بدء الحوار الوطني الشامل من أجل رسم وجه سوريا المقبل الذي يجمع قدرات هذا الشعب العظيم في بوتقة واحدة مستفيداً من الإصلاحات وواثقاً كل الثقة بتحقيق ظروف أفضل من أجل كرامة الوطن والأمة ومتصدياً للهجمة الأميركية الصهيونية على سوريا وموقعها ودورها في معادلة الصراع في المنطقة.
من حق شعبنا العربي وأمتنا في كل مكان أن تحلم بمستقبل واعد مستفيدة من كل قدراتنا وثرواتنا، وواجب علينا أن نساهم في بناء مرتكزات قوية سليمة والبناء عليها، ولكن في ذات الوقت، علينا ألا نسوّق الوهم بل الحقائق الساطعة إذا كنا نريد أن نخرج برؤية واضحة لحقيقة ما يجري في المنطقة، فالأمن بالنسبة للعالم العربي جزء لا يتجزّأ، حيث يتعرض هذا الجسد لأعتى هجمة استعمارية غربية – صهيونية – غربية يساعدها في ذلك أدوات محلية متصهينة ورخيصة ربطت مصالحها الصغيرة الضيقة بالمصالح الكبرى لأسيادها ووصلت الى دونية لا مثيل لها من الهبوط الأخلاقي وباعت نفسها للشيطان، هذه الأدوات يعز عليها أن ترى سوريا العروبة والأمة والمقاومة، شامخة صامدة، تتحطّم على صخرتها كل مؤامرات الأعداء وحقدهم الأسود.
جامعة الدول العربية الى أين!؟
اتفق العرب في "جامعتهم" على ما سمي "مبادرة" تحمل تصوراً محدداً حيال الأزمة السورية، وهذه المبادرة كانت عبارة عن مجموعة من الأفكار حازت قبولاً من الدول الخليجية، قالت المصادر: "إن هذه "المبادرة"، كانت أسوأ من تلك التي تضمنها مشروع قرار مجلس الأمن المعد أوروبياً.
وشكّلت أفكارها تدخلاً سافراً في الشأن الداخلي السوري، وهذه "المبادرة" كانت معدة سلفاً لتنال رضا طرف معين فقط، وبين أفكارها العمل لانتخاب برلمان انتقالي يتعهّد بنقل السلطة رسمياً، وهو الأمر الذي استدعى رداً عنيفاً من المندوب السوري في الجامعة العربية.
لقد كانت سوريا مع مطالب الإصلاح ورأت في المطالب التي تقدم بها المواطنون السوريون، بأنها تعكس لغة إيجابية تستدعي التجاوب معها في توفير مناخ أوسع من الحريات الأساسية وتحسين واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية وقد تجاوبت القيادة والحكومة مع المطالب الشعبية من خلال سلسلة من الإجراءات وعبر إصدار حزمة من القوانين الجديدة، وهي بدأت في حوار وطني شامل يجمع أطياف ومكونات الشعب السوري وبدأت العمل على ترسيخ المزيد من الحريات السياسية والاقتصادية والإعلامية والحزبية وتوفير فرص عمل جديدة وتحسين ظروف العمل والأجور ومحاربة الفساد.
اللافت للنظر، أن دعوات الإصلاح التي جاءت من (بعض) العرب وخاصة دول الخليج تثير الكثير من التساؤلات عن الأسباب والدوافع، لقد كان من المفترض أن تأتي دعوات الإصلاح من دول تحرص فعلاً على الأمن والاستقرار في سوريا، وتملك في ذات الوقت تجربة عملية ودستورية وقانونية عريقة في مجال الحريات العامة والأساسية والإعلامية وفي مجال الممارسة الانتخابية الشفافة والنزيهة والحياة البرلمانية الفاعلة، ولكن أتت من دول لا يملك بعضها دستوراً، وبعضها أصدر فتاوى شرعية بتحريم التظاهر والاحتجاج، وذلك لاستغلال الوضع في سوريا.
الموقف السلبي الذي تتخذه جامعة الدول العربية من الأزمة السورية، من شأنه أن يعبد الطريق أمام التدخل الأجنبي في دولة هي عضو في الجامعة، ورغم ضعف موقف الجامعة حتى الآن، لكن البيان الذي أصدرته الجامعة لم ينحنِ أمام ضغوط الولايات المتحدة والدول الغربية، وتحاول الجامعة أن ترضي جميع الأطراف الداخلة في ائتلافها، وهذا الموقف في حد ذاته يعكس رغبة بعض الأطراف المرتبطة بالأجنبي وتستدرج تدخله، وهنا خطورة المواقف التي تصدر عن الجامعة العربية.
أما السبيل الوحيد الممكن والواقعي لحل الأزمة السورية، هو سياسي عن طريق حوارات داخلية وإقليمية، أما تلك المفروضة من الخارج فهي عاجزة عن تذليل الأزمة، ويجب التفكير في الخيارات السياسية وإصلاحات اجتماعية واقتصادية.
سوريا اليوم على جدول أعمال جامعة الدول العربية، والخطوة مبدئية وشكلية ومؤقتة، وهي تسد فراغاً يربك المجتمع الدولي، ولكن هذه الخطوة ليست ثابتة في ظل الأوضاع الدولية الحالية والضغوط التي توجه الى بعض الدول العربية التي تربطها علاقات مع الدول الغربية والولايات المتحدة، ومن المفترض أن يكون الحرص العربي أكبر على سوريا، من خلال فتح قنوات الاتصال الإيجابية التي تقدم المساعدة للخروج من هذه الأزمة، وهناك مخاوف حقيقية من دور الجامعة العربية في الأزمة السورية، لأن العرب لا يمثلون جسداً سياسياً واحداً، وهم ليسوا مؤهلين أو محايدين للخوض في غمار تجربة تحديث وإصلاح في سوريا ومؤسساتها.
والمجتمع الدولي الذي دفع العرب في اتجاه مثل هذه "المبادرة" المتزامنة مع تطور الأوضاع في ليبيا، لم يكن يطلب إلا خطوة واحدة أخيرة لتدخله في سوريا ويستدل على ذلك من خلال الشكوك المتبادلة بين أعضائه حول أفضل السبل لمقاربة الأزمة السورية، سلاح العقوبات تمّ استخدامه الى الحد الأقصى الممكن، ولا يرغب في استخدام بقية الأسلحة التي تتطلّب مبرّراً كافياً، والنظام في سوريا لم يوفر هذه الذريعة للدول الراغبة في التدخل في شؤون سوريا، فالأوضاع جيدة على كافة مستويات الدولة ومستوى الوعي والرؤية عند السوريين نعمة مازالت تفوّت كل الفرص لدى المتربصين ببلادهم، وسوريا التي تملك من القوة والأوراق الكثير لم تستخدمها بعد، وهي تنمّ عن حكمة بالغة تعرف حجم الاستهداف وتتعامل مع الحدث بقدر ما يحتاجه من علاج وهذا مكمن آخر للقوة عند القيادة السورية، والغرب لا يزال يفضّل أن يغرق السوريون في حرب أهلية وهو يضخ كل سمومه ومؤامراته في هذا الاتجاه، لأنه يعتقد بأن تكلفة هذا الخيار ستكون مناسبة لديه، فهو لا يريد أن يخاطر بجنوده ويضعهم عل جبهة أخطر بما لا يقاس من كل الجبهات الأخرى.
ومن هنا يمكن القول أيضاً، إن تعريب الأزمة السورية هي خطة أميركية – تركية – غربية، ليست خطة للتدويل وإنما لخلط الأوراق في المنطقة ولوضع عرب "الاعتدال" حاجز إضافي جديد لمواجهة إيران التي تدعم سوريا وتتعامل مع الأزمة وكأنها تستهدف موقعها ونفوذها وبنفس الوقت تشجيع تركيا للقيام بدورها بمساعدة الحلفاء أو الاستغناء عن تركيا وجر "العرب" لافتعال مواجهة مع إيران والهدف إضعاف سوريا للنيل منها.
ما الذي تريده تركيا من سوريا؟
تريد الحكومة التركية أن تبقى هي الماسكة الأولى دون سواها بالوضع السوري، ولا تريد إخلاء الساحة لأي طرف آخر، ولا حتى للولايات المتحدة، ذلك أن سوريا بالنسبة الى أنقرة والى الرأسمالية التركية بالدرجة الأولى، هي كنز لا يجوز التفريط به.
لقد نُظر الى تركيا طويلاً كمخلب أميركي في المنطقة، وكحليف للكيان الصهيوني كذلك، وكان ذلك واقعاً صحيحاً لعقود طويلة، لكن اليوم لا يمكن قول الأمر نفسه، لأن الأزمة الضاربة في الولايات المتحدة أسست لوضع جديد فرض على البورجوازية التركية إعادة بناء أولوياتها، بعدما ظلّت لعقود ملحقة بالرأسمال الأميركي، وعملت طويلاً كي تصبح جزءًا من أوروبا ولكن الأخيرة كانت تمانع دوماً، هذا الوضع هو الذي فرض التحول في مزاج الشعب التركي نحو "الشرق" من خلال انتخاب حزب العدالة والتنمية.
وفي ظل التنافس التركي على مواقع جديدة وأسواق مناسبة، كانت سوريا بوابة الأتراك نحو المشرق، وفي إطار هذه الاستراتيجيا الجديدة، كانت سوريا معرضة دوماً لحصار أميركي ووضع سوريا في محور مع إيران، هكذا تمّ توفير فرص جديدة للأتراك في سوريا.
لقد حصلت البورجوازيات التركية على اتفاقيات اقتصادية مهمة مع السوريين، وتعزز وضع سوريا ممراً للسلع التركية، هو ما أدى الى جملة من التداعيات في الاقتصاد السوري بسبب منافسة السلع التركية، هذا الأمر دفع تركيا لتكون معنية بالشأن الداخلي السوري وباستقرار النظام فيه، وهي تريد أن تغيّر لا التغيير، حفاظاً على مصالحها وهي تشعر بمخاوف ماثلة تخرجها من المعادلة.
إن ما يهم الحكومة التركية هو استمرار السلطة القائمة مع تعديلها بما يسمح بتحقيق "دولة تعددية" وتوازن يرضي الأتراك ولكن الأمور لم تذهب في هذا الاتجاه لأن حسابات دمشق لها أولوياتها الخاصة والتزاماتها الوطنية والقومية، وتعمل وفق أجندة تخدم المصالح العليا للشعب السوري، وسوريا ليست منطقة نفوذ للآخرين، ولم ولن تسمح للآخرين بالوصاية عليها.
إن أصحاب المشاريع المشبوهة والمخططات المعادية ماضون في سياساتهم الرامية الى تفتيت دول المنطقة وشرذمة شعوبها بهدف نهب ثرواتها والسيطرة على مقدراتها عبر تعميم الفوضى وعدم الاستقرار وباستخدام شعارات براقة تدعو لحرية كاذبة وديمقراطية مزعومة مستخدمين في ذلك أساليب وأدوات رخيصة تسهل عليهم تنفيذ مآربهم الدنيئة، وأن استهداف سوريا لأنها ممثلة للنهج القومي العروبي المقاوم الذي يقف في وجه أطماعهم ومشاريعهم في المنطقة.
سوريا ماضية ببرنامج الإصلاح الوطني الشامل انطلاقاً من كونه يعبر عن حاجة المجتمع وليس استجابة لضغوط فُرضت من الخارج...
محمود صالح