الإنسحاب الأميركي من العراق خلّف وراءه اشتباكاً سياسي
اندحرت القوات الأميركية من العراق في الأيام الأخيرة من
العام المنصرم 2011، هذا الاندحار تم تحت تأثير ضربات المقاومة العراقية التي أجبرت
المحتل الأميركي أن يدفع ثمن احتلاله بخسائر جسيمة، البشرية منها والاقتصادية بحيث
بات الاحتلال أمراً مكلفاً.
الحرب الأميركية على العراق، من بين تداعياتها المتواصلة
بعد الانسحاب، يتمثل في المعضلة الأكبر والأخطر والمتعلقة بمصالح الولايات المتحدة
النفطية واللوجستية البعيدة المدى، والشعور السائد في أوساط أميركية، إن الحرب أثرت
سلباً في هذه المصالح بدلاً من ترسيخها وهذا ما تؤكده المعادلات الناجمة عن تلك
الحرب في منطقة الخليج بشكل خاص، حرب الإرادات بدأت هناك، إيران تؤكد على وجوب
تطهير المنطقة من الوجود الأميركي.
لقد اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما، أن يضمن مصالح
الولايات المتحدة في العراق من خلال توقيع اتفاقيات مع الحكومة العراقية، وفي تصور
معين لعراق ما بعد الخروج الأميركي منه، ولم يكتفِ بذلك، وما حصل خلال عام 2011
وما بعده من أحداث كبرى في المنطقة وخاصة الأزمات المتكررة في الخليج ومحاولة فرض
حصار اقتصادي ضد سوريا وإشعال نيران الفتنة في كل مكان بهدف إضعاف جبهة المقاومة ومنظومتها
في المنطقة والمتمثلة في سوريا وإيران والمقاومة في لبنان، بغية ترك العراق ضعيفاً
مرتبطاً بمعاهدات أميركية، والأمر الواضح أيضاً، هو المحاولات الأميركية التي أشاعت
بأن العراق لن يبقى مستقراً بعد الانسحاب، ويرى بعضهم "أن العراق الصعب سيغدو
مستنقعاً للصدامات الأهلية ومسرحاً للتجاذبات في المنطقة".
أما بالنسبة لواشنطن، فهي ترى أن دبلوماسية القوة
الناعمة تعوض الى حد كبير وجودها العسكري، وذلك من خلال وجود استخباري هو الأكبر
في العالم، حيث يشار الى سفارة أميركا في العراق هي الأكبر في العالم.
لقد تعامل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بحنكة مع
قضية الانسحاب الأميركي، واشترط الانسحاب الأميركي الكامل، وترك الباب مفتوحاً
محملاً البرلمان المسؤولية، وفي بلد أضعفته الحرب الأميركية يبدو، أن الأبواب
مشرعة على مصراعيها لإمكان إحداث توترات داخلية.
وفي تداعيات الانسحاب العسكري الأميركي يحاول أعداء
العراق العمل على الإيحاء للعراقيين، بأن الأميركي كان ضامناً لحالة الاستقرار وفي
هذا إساءة الى العراقيين وترويج للنزاعات الطائفية والإثنية، خاصة في ما يتعلق
بكركوك والمناطق المتنازع عليها في عدد من المحافظات، والغياب العسكري الأميركي قد
يفسره البعض بأنه فرصة لفرض إرادتهم على الآخر، ولذلك تتصاعد حالة الاستقطاب
الطائفي.
وبالتزامن مع الانسحاب الأميركي، تُطرَح في العراق حالة
من الاضطراب السياسي التي تصاعدت وتيرتها، ومنها ما يتعلق بمستقبل العملية
السياسية وإدارة الحكم في البلاد، لكنها في الوقت ذاته تفرز خيارات ملتبسة لكنها
صعبة التحقيق.
لقد عكست الأحداث الأخيرة في العراق توصيفات عدة للأزمة،
مثل مذكرة اعتقال نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بتهمة تمويل عمليات إرهابية،
وطلب إقصاء نائب رئيس الحكومة صالح المطلك، هذا يفرض توجه "القائمة العراقية"
الى الانسحاب من الحكومة التي يرأسها نوري المالكي، وقد علقت حضورها اجتماعات
البرلمان، ودعا رئيس كتلة "العراقية" إياد علاوي الى إبدال حكومة
المالكي بحكومة تسيير أعمال الى حين إجراء انتخابات جديدة، وهذه دونه عوائق
وحسابات في ظل الأوضاع المأزومة في العراق وبالغة التعقيد في المنطقة.
ولكن السيناريو الأقرب الى الواقع في ضوء التجارب يشير
الى استمرار الوضع الحالي على اضطرابه، وتعليق مذكرة القبض على الهاشمي وعدد من
قيادة "العراقية" من دون إبطالها، و"العراقية" ليس من
مصلحتها، على ما يؤكد قادتها إبقاء مقاطعتها للبرلمان لحاجتها الى ترتيبات سياسية
وانتخابية وحل مشاكل المحافظات المتأزمة ما يفقدها فرصة التدخل لتعديل قوانين قد
لا تنسجم مع مصالحها، فيما كتلة المالكي "دولة القانون" لن يكون في
مصلحتها إحداث قطيعة واسعة النطاق مع الأوساط الأخرى التي قد تقود الى انفصال
حقيقي في البلاد في نطاق الأقاليم والطوائف والمذاهب وحدوث تغيير كبير في توازنات
المنطقة.
والمقربون من القيادة العراقية بكافة مكوناتها يشيرون
الى أن دول المنطقة ليس من مصلحتها أيضاً تقسيم العراق، ما قد يولّد حروباً وحوادث
على مقربة من حدودها، وهناك حالة ترقب وانتظار حتى تتجلى حقيقة الموقف الأميركي من
مستقبل هذا البلد، لأن التصريحات الأميركية شيئ وما يجري على أرض الواقع شيئ آخر
مختلف تماماً.
وهناك إشارات متضاربة تشير الى دور واشنطن في الاشتباك
السياسي الحالي في العراق، يكمن في حصول رئيس الحكومة العراقية على ضوء أخضر من
واشنطن لتصعيد مواقفها، وبنفس الوقت يؤكد آخرون أن قادة "العراقية" (علاوي)
يتلقون دعماً أميركياً للغرض نفسه عبر أطراف عربية وتركية، وهذا يعني أن واشنطن
تحاول تأجيج الخلافات السياسية في هذا الوقت بالتحديد، في أوج الهجمة التي تتعرض
لها سوريا من أكثر من طرف عربي وخارجي بهدف زعزعة استقرارها والتأثير على قرارها،
ومن هنا يتم اللجوء الى العمق العراقي لزعزعة أركانه لحرمان سوريا من أي دعم من
العراق في حال تطورت الأحداث في المنطقة، والتهديدات الأميركية والصهيونية ضد إيران.
الإشتباك السياسي في العراق، ربما يتحول الى حرب أهلية
جديدة نتيجة الصراع لسد الفراغ الذي خلقه الاحتلال وهذا الإرث يهدد العراق بتقسيمه
على مختلف المكونات، بحيث لن ينال حصة كاملة منها أي مكون.
والسؤال، هل يمكن الفصل بين ما جرى في العراق وما يجري
في سوريا، بتوقيته ورعايته الدولية و"العربية"، وبين ما يخطط ويدبر لمستقبل
العراق، وهل دقت الساعة الأميركية لضرب الدولة المركزية في أي بلد عربي.
والسؤال أيضاً، أي جلاء لقوات الاحتلال الأميركي عن العراق
وعدد موظفي سفارته التي تمتد الى حي كامل في بغداد يزيد على 15 ألف موظف، وهل يمكن
لأي سفارة في العالم أن تحتاج لمثل هذا العدد من الموظفين فيها.
إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تراهن على فقدان
الذاكرة لدى زعامات "النظام" العربي الرسمي عندما قالت لهم واشنطن "أنسوا
العراق"! إنه يسير في طريق خاص آخر، وكانت إدارة أوباما من خلال استراتيجيتها
الجديدة في المنطقة قد هرعت لتذكير "العرب" بـعروبة العراق وضغطت عليهم
لمشاركتها في بناء العراق و"تأهيله" للاندماج في سياسة أميركا الشرق أوسطية،
أي أن يتحول العراق القادم بصيغة "بوش" الشهيرة، الى قوة إقليمية يعتد
بها ويعتمد عليها في مقاومة النفوذ والتمدد السياسي والنووي للدولة الإيرانية،
ولكن هذا الأمر فشل تماماً، وهذا ما يقلق الأميركي.
قد تكون حرب العراق انتهت عسكرياً بالنسبة للولايات
المتحدة، لكنها لم تنته بالنسبة للعراقيين أو للحكومة العراقية، وليس صدفة أن يحصل
الاشتباك السياسي بين المكونات العراقية بعد يوم واحد من استكمال انسحاب الجيش
الأميركي مما أحيا المخاوف من نشوب توترات طائفية مجدداً في العراق.
أميركا فشلت في إعادة هيكيلة الشرق الأوسط، وهي مأزومة
مادياً وبددت "طاقتها" أو الجهد على ما لم تنعقد ثماره، وفي هذه الأثناء
تسعى تركيا ووزير خارجيتها (وفق وثائق ويكيليكس) وراء أهداف إقليمية خاصة بها لا
تتطابق مع الأهداف الأميركية، وإنما هناك تقاطعات معينة، من هنا يمكن القول: إن
مستقبل المنطقة مازال مبهماً، ولكن دروس حرب العراق هي بمثابة عبرة لواشنطن.
وفي هذا الوقت تتجه الأزمة السياسية في العراق الى مزيد
من التعقيد، مع تضاؤل فرص نجاح المؤتمر الوطني الموسع في العراق الذي دعا إليه
رئيس الجمهورية جلال الطالباني، فيما اشترطت "العراقية" عقده في إقليم
كردستان، عادت وطالبت بأمور مستحيلة، وهذا يعني أن المؤتمر فشل قبل انعقاده.
يبدو أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يمسك بزمام
اللعبة السياسية التي بدأها منذ 16 كانون الأول الماضي عندما أصدر مذكرة قضت
باعتقال نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بتهمة تمويل علميات إرهابية، ومنذ أن أقال
نائب رئيس الوزراء العراقي صالح المطلك، وحتى تنجلي الحقائق يبقى العراق في دائرة
الاستهداف الأميركي بطرق وأساليب شتى، والرهان الوحيد هو على مدى وعي العراقيين
ومدى توافقهم على ترتيب الأولويات في ظل هجمة أميركية – غربية تستهدف المنطقة
بأسرها بعد أن انتهت العملية السياسية التي كانت في ظل الاحتلال.
من هنا نلحظ في تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب
أردوغان أمام البرلمان الأميركي حذر "على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي
أن يفهم هذا الأمر: إذا بدأت عملية مواجهة في العراق تحت شكل نزاع طائفي، فمن
المستحيل أن نبقى صامتين"، في إشارة واضحة الى حقيقة الدور التركي الجديد في
دول الجوار بعد خروج المحتل الأميركي.
لكن المالكي وصف تصريحات أردوغان بـ "القبيحة وغير
اللائقة" وهي تستفز العراقيين جميعاً وخصوصاً من يعتقد أنه يدافع عنهم.
أدهم محمود