دعمهم لمعارضة غامضة ومنظمات إرهابية
محركو المؤامرة على سوريا يستنفدون ذخيرتهم
ليست الحرب الحاقدة التي تشن على سوريا وليدة اللحظة الراهنة، هذه الحرب لم تكن جديدة أو غير متوقعة، حيث شكّلت سوريا عبر تاريخها الطويل عمقاً استراتيجياً لأمتها، وكانت دوماً الحلقة الصعبة والعصية على الكسر أو الاحتواء، وبنفس الوقت لا يمكن التغاضي عن الوقائع الجديدة والأحداث والأزمات التي عصفت بالمنطقة على مدار العقود الماضية وصولاً الى المرحلة الراهنة التي بدأت مقدماتها في التغييرات التي اجتاحت كل من مصر وتونس وبلدان أخرى في دنيا العرب، ونقول وبكل جزم، أن رياح التغيير التي اجتاحت مصر كان لها أسبابها ودوافعها ورغبات الطامحين لرؤية تلك البلدان وقد تخلصت من الهيمنة الأميركية والاستعمارية التقليدية بشكل عام، لكن الأمور لم تسِر في المسار الذي أراده مفجرو الثورات الحقيقية، حيث سُرقت الثورة في مصر العروبة، وتمّ وأد تطلعات الجماهير التواقة الى الانعتاق من رجس المعاهدات المذلة.
وتحت لافتة الثورة والتغيير اختلطت الأوراق جميعها، وتم احتواء الثورة في مصر الى حين، وجعل الأعداء من هبوب رياح التغيير مناسبة لركوب موجة الثورة، ومحاولة لتغيير اتجاه الريح، خاف الأعداء من الثورة الحقيقية وانتصارها المحتمل، وفي إجراءاستباقي تمّ التركيز على سوريا العروبة وما تمثله في ضمير أبناء أمتنا ، أعد الأعداء كل ما شأنه أن يهز هذه القلعة من داخلها بعد أن عجزوا من المواجهة، ولأن سوريا هي الركن الأساسي في منظومة المقاومة ومقارعة المشاريع الاستعمارية في منطقتنا، لذلك كان التركيزعليها عبر استخدام كل الأدوات المأجورة التي باعت نفسها لقوى الطغيان والهيمنة العالمية وبعد أن تخلّت تلك الأدوات عن كل ما يمت لها بصلة لعروبتها وإسلامها، ووضعت نفسها رهينة بأيدي الأعداءالطامعين بثروات أمتنا طمعاً بكرسي، أو سلطان زائف وفي المقابل تركت نفط العرب منهوباً لإرادة أعداء الإنسانية، وذهبت بعيداً في غيها وظلمها بعد أن سلمت مستقبل الأجيال وحاضرهم وتبارى هؤلاء في وضع الخطط وتقديم أوراق الاعتماد في لعبة البحث عن رضا السيد الأميركي – المتصهين.
وحدها سوريا ومعها كل قوى المقاومة وشرفاء الأمة كان لهم موقف آخر وإرادة أخرى تستلهم عزمها من تاريخ أمتنا وبطولات من رحلوا بعد أن زرعوا اليقين عنواناً، وكان مسارهم ثابت الخطى، ومقاومة لا تلين في مواجهة قوى الظلم والعبودية التي مهما بلغت من قوة فهي زائلة أمام إرادة أصحاب الحق والملتزمين بقضايا الأمة.
اليوم وبعد تسعة عشر شهراً من الأحداث والأزمة السورية، بدأت الأمور تتضح أكثر من ذي قبل وبعد أن انقشع الغبار وأزيلت الغشاوة عن عيون من حاولوا أن يزوّروا ما يجري في أرض الشام، لقد حاول بعض "العرب" استخدام الخطاب الديني والإشاعة والحرب النفسية لتزوير وعي الناس واستخدام تسميات وشخصيات بطولية من التاريخ الاسلامي بهدف خداع الجماهير ولجر الحرب في اتجاه مدمر للنسيج الاجتماعي السوري، وفي هذه الجلبة تسللت عناصر "القاعدة" تحت عناوين ومسميات نافرة وجميعها مجموعات سلفية متشددة، قامت بهجمات انتحارية وهجمات بالسيارات المفخخة في المدن السورية والترويج لخطاب "جهادي" بهدف إنشاء دولة إسلامية في سوريا.
والوضع العربي يبدو الآن في صورة هي أسوأ مما كان عليه قبل عقود من الزمن، اليوم يحاول الأعداء كسر إرادة أبناء الأمة، ومحاولة فرض اليهمنة الأميركية على أوسع مساحة ممكنة في عالمنا العربي وتوسيع الهيمنة الأميركية السياسية التي جاءت بها معاهدة كامب ديفيد حيث فرضت تلك المعاهدة شكل العلاقة بين مصر – والكيان الصهيوني، والراعي الأميركي، وبقيت سوريا خارج هذا الاحتواء وهي اليوم تدفع ثمن مواقفها القومية والمبدئية.
وعندما انفجرت ثورة 25 يناير 2011 المصرية الجماهيرية ظهر الأمل مجدداُ في أن مصر ستستعيد مركزها وأن الهيمنة الأميركية الى زوال، غير أن الهمينة الأميركية فرضت نفسها من جديد مع صعود جماعة "الإخوان المسلمين" التي تسلمت السلطة من المجلس العسكري، وهنا حصل التقهقر والتراجع من خلال الالتزام الذي قدمته السلطة الإخوانية التي خضعت لها مصر في ظروف لا تزال تشهدها، وهذه السلطة وضعت وراء ظهرها مجمل الأهداف القومية والتحررية ووقعت وثائق الالتزام "بالسلام" مع "إسرائيل" والخضوع للهيمنة الأميركية، وتحولت مصر بذلك الى قطعة شطرنج في الشرق الأوسط تنقلها أميركا لحساب التحركات الإسرائيلية وحيثما شاءت الهيمنة الأميركية وشاءت المصالح الإسرائيلية.
سوريا اليوم تقاوم الهيمنة الأميركية وتقاوم المنظمات الدينية المتطرفة التي لم تعد تخفي استسلامها ودورانها في الفلك الأميركي المتصهين وتعتبر "إسرائيل" خارج حساباتها، فهي مجرد أداة في اللعبة الدولية.
وبينما تنشغل سوريا بمقاومة قوى التدخل العسكري الأجنبية، تحضر المملكة السعودية ومعها قطر وغيرهما "من أخوات كان" بسياساتها المنسقة مع أميركا ومع حلف الأطلسي، أي تغييب تلك "الدول" عن ظروف تقتضي مقاومة التنظيمات الدينية المتطرفة، وذهبت بعيداً في مباركتها ما يجري من خلال الصمت والتواطؤ ودعم تلك التنظيمات بالمال والسلاح لمحاربة سوريا، وسياسات تلك "الدول" تولي ظهرها تماماً لغطرسة القوة الإسرائيلية وتنسق الى أبعد الحدود مع الهيمنة الأميركية، وتحضر مصر ومعها السلطة الإخوانية، الى جانب السلطات الأجنبية التي تحارب سوريا في سوريا، وتعلن مصر صراحة أنها تؤيد حرب التنظيمات المتطرفة في سوريا وتريد ما تريده الولايات المتحدة و"إسرائيل" وهو أن ينهزم النظام السوري الذي قاوم الهيمنة الأميركية وقاوم نهج الاستسلام لغطرسة القوة الاسرائيلية طوال عقود من الزمن.
نزاعات وأزمات الشرق الأوسط كانت على الطاولة في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في نيويورك، ولكن المداخلات التي دارت هناك كانت تضليلية ومضحكة ومثيرة للسخرية لدى المراقبين، ومثال ذلك ما أعلنه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أن فرنسا كانت مستعدة للاعتراف بحكومة سورية لتحل محل الحكومة الحالية، وعلى الرغم من أنه لا وجود لحكومة مماثلة وكان هناك دعوات حاقدة من أمير قطر الشيخ حمد الذي دعا الى تدخل عسكري عربي في سوريا، وكأنه لا يدرك أن الدول العربية لا تملك الرغبة في مثل هذا العمل لأنه يؤدي الى نتائج كارثية تعيد خلط الأوراق في المنطقة، ولأنها تعني أن هناك من يحاول الارتماء في أحضان الدول التي شجعت أعمال العنف والفوضى في المنطقة لتحقيق أهدافها في السيطرة والهيمنة.
أليس من الأجدى أن يتحرك "العرب" لرأب الصدع والتحرك بروح من المسؤولية والمساهمة في وقف نزيف الدم السوري عن طريق وقف تدفق السلاح والمال على مجموعات المرتزقة التي تنفذ أجندات الدول المتصهينة التي أوغلت في تمزيق الجسد العربي، أليس من الأفضل أن تتحرك الحمية العروبية لدى "العرب" للعمل على إعادة إعمار سوريا وإعادة إطلاق الاقتصاد والبحث في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية بعيداً عن مأرب دول الغرب الاستعمارية.
السؤال، هل الأزمة السورية ستبقى معلقة بين قطر والسعودية وتركيا والولايات المتحدة الى أجل غير مسمى؟ وتلك الدول تتفق على استراتيجية واحدة بشأن الأزمة، وخاصة أن التنافس الذي يجري بين قطر والسعودية بات يعكس نفسه على الأوضاع وباتت الأزمة السورية مرشحة للامتداد خارج الحدود السورية، ومسألة إمداد العصابات بالأسلحة مسألة حساسة ودقيقة وقاتمة، الموقف الأميركي بدأ بالتحول منذ فترة ليس حباً بسوريا، وهو الآن يرفض الدور القطري والسعودي بدعم "المعارضين" بالسلاح، وفي تباين الموقف السعودي عن القطري، نرى أن قطر تعمل على تقديم السلاح والمال لجميع أدوات التخريب والقتل دون استثناء، أما السعودية فهي تدعم المجموعات التي تختلف مع تلك المدعومة من قطر وتركيا، "وهي غالباً مرتبطة بالإخوان المسلمين" .
وفي سياق غياب الاستراتيجية الموحدة، فإن رؤساء أجهزة الاستخبارات من فرنسا وتركيا والسعودية وقطر ورئيس الاستخبارات الأميركية دايفيد بترايوس التقوا في أيلول الماضي في تركيا، ولكنهم لم يتفقوا على استراتيجية منسقة حول سوريا، وقال مسؤولون أميركيون إن "السبب وراء ضغط الولايات المتحدة على قطر والسعودية هو طبيعة المعارضة الغامضة، ووجود مقاتلين جهاديين" وفي هذا الشأن أصدر السيناتور بوب كوركر، العضو في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بياناً شدد فيه على التهديد الذي يمثله التطرف الأصولي في المنطقة، وقد اتفق عدد من خبراء الأمن الوطني والإقليمي على أن وجود أفرع "القاعدة" في سوريا يجعل من تسليح المتمردين مسألة معقدة، واضحة ، هي الأخطار الناجمة عن سقوط الأسلحة المنقولة في أيدي الإرهابيين والعناصر الشريكة للإرهاب، واحتمالات سقوط الأسلحة في يد المجموعات المتطرفة"، وفي هذا المجال يقول خبير الأمن القومي في "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية"، أنطوني كوردسمان: "الأخطار التي يطرحها توجيه هذه الأسلحة ضد الولايات المتحدة وحلفائها جسيمة، وآخر ما نرغب به، نحن وحلفاؤنا، هو تحمل التكاليف السياسية وخسائر الحوادث، في حال سير الأمور خطأ"
وهذا يذكرنا بالهجوم الذي شنّه أصوليون متطرفون على القنصلية الأميركية في بنغازي في أيلول الماضي حيث استعملوا أسلحة عالية القوة وفرتها فوضى الصراع الليبي، يشكّل مثالاً على ما يمكن حدوثه إذا سقطت الأسلحة في الأيدي الخطأ.
وإذا كان الغرب يتوجس من الجماعات الإسلامية المتطرفة ومن الإرهاب الذي قام على تشخيصه في حركة "القاعدة" فهذه الجماعات تواجه صراعاً مفتوحاً مع الحكام الجدد الذين لم يترددوا في مطاردتها في سيناء وفي اليمن وفي ليبيا ومقاومتها في أشكالها الأولية "السلفية" في تونس.
كل الدلائل والمؤشرات التي تجري على أرض الواقع تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لم يستنفذوا بعد حاجتهم لاستثمار هذه الحركات، فهو يسعى الى توجيهها الى مواقع وساحات يريدها، فتتم مواجهتها وتضرب وتؤدي وظيفتها في خلق أوضاع ملائمة على المستوى السياسي، هكذا وبرغم التحذير الأميركي من استقطاب عناصر "القاعدة" الى الساحة السورية، فقد يرتاح الأميركيون الى التطاحن الدائر بين هذه الحركة ومن يقاومها، فلا يستطيع الأميركيون أن يهندسوا بالتفصيل المتغيرات العربية، بل هم يتعاملون معها بواقعية وتجريبية والمهم أن تخدم مصالحهم في المحصلة، هذا كما حصل في العراق خلال الاحتلال الأميركي.
وعلى الرغم من أن الغرب يتعرض لإزعاجات واضحة من عنف هذه الجماعات، لكنه على المستوى السياسي البعيد المدى يبرر له سياسات التدخل والسيطرة وابتزاز المنطقة عندما تنضج الظروف المناسبة له.
محمود صالح